على الرغم من أن العراق لم يعرف طقس حرق جثث الموتى على مدار التاريخ، إلا أن في محافظة كركوك ما يشير إلى غير ذلك حيث توجد محرقة جثث عمرها يتجاوز 100 عام ما زالت شاخصة لتحكي قصة عمال هنود كانوا يعملون في المنشآت النفطية العراقية في ستينيات القرن الماضي.
طقس حرق جثث الموتى عمره آلاف السنين فقد وجد علماء الآثار ما يشير إلى هذه الممارسة قبل نحو 20 ألف سنة قرب بحيرة مونجو في أستراليا، كما أنه طقس متوارث لدى شعوب شرق آسيا، كما أنها ممارسة كانت متبعة قديماً في أوروبا ولدى سكان أمريكا الأصليين الهنود الحمر وقارات ودول أخرى.
المحرقة الهندية
ما إن تقطع مسافة ثلاثة كيلومترات من مقر شركة نفط الشمال الواقعة في منطقة عرفة السكنية والتي تقطنها عوائل موظفي الشركة في كركوك، ستعترض طريقك نقطة تفتيش تتحقق من هوية ركاب السيارة حيث لا يتم دخول هذه المنطقة إلا بموافقات خاصة لغير الموظفين.
وبعد اجتياز نقطة التفتيش يبدأ السير إلى منطقة "باباكركر" الشهيرة حيث يقع أكبر حقل للنفط في كركوك وثاني أكبر حقل نفطي في العراق بعد حقل الرميلة في البصرة.
تسير السيارة باتجاه قلب شركة نفط الشمال حيث المنطقة الصناعية وأبراج تكرير النفط التي تظهر للعيان من بعيد، ورائحة النفط الخام التي تنتشر في المنطقة، وما إن تقترب من البئر رقم واحد، وهو أول بئر تم حفره في كركوك وإلى جانبه الشعلة الأزلية المتقدة منذ آلاف السنين، يبرز مبنى المحرقة الهندية.
يظهر للعيان مبنى صغير تعلوه مدخنة وهناك أيضاً أشبه بمنضدة حديدية بطول خمسة أمتار كانت توضع عليها جثث الموتى من العمال الهنود الذين كانوا يعملون هنا في ستينيات القرن الماضي.
تتألف المحرقة من ثلاث غرف، في إحداها يجري استقبال جثة المتوفى لتهيئتها، وفي غرفة أخرى يقوم شخص مختص بوضع الجثة في تابوت حديدي ويدفعها داخل الفرن لحرقها.
علامة فارقة
ويتذكر خليل عبد الله (83 عاماً) العمال الهنود في ستينيات القرن الماضي عندما كانوا يعملون في بناء المنشآت النفطية وهم جزء من الشركات البريطانية التي تولت عملية بناء الأسس الأولية لشركة نفط الشمال.
ويقول عبد الله لوكالة شفق نيوز، إن "المحرقة الهندية كانت علامة فارقة في المنطقة، كان العمال المسلمون يتجمعون عندما يتوفى عامل هندي ليشاهدوا كيفية حرق جثته، وأنا شهدت تلك الطقوس في العام 1968".
ويضيف "كان هناك شخص يتولى أداء الطقوس الدينية الخاصة بالوفاة، وشخص آخر هو من يقوم بوضع الجثة في التابوت الحديدي وتزيينها وتعطيرها ودفعها إلى الفرن لتُحرق".
النساء ممنوعات
بدوره يوضح أستاذ الدراسات الهندية في جامعة كركوك، أيمن بهاء الدين، لوكالة شفق نيوز، أن "المحرقة الهندية تعتبر جزءاً من تاريخ وحضارة كركوك وخاصة شركة نفط الشمال لأنها دليل على ما مرّت من أحداث على المحافظة وسكانها".
ويشير إلى أن "المحرقة الهندية تم تأسيسها قبل 100 عام مع حفر أول بئر نفطي في كركوك بحدود العام 1921، حيث كانت العمالة الهندية طاغية على الشركات البريطانية التي احتلت العراق وبدأت بتأسيس الشركات النفطية، والهنود يمثلون أكثر من 60% من العاملين في الشركات البريطانية".
ويبين أن "الهنود وخاصة الهندوس منهم يمارسون طقس حرق الموتى ومحرقتهم في كركوك دليل شاخص على ذلك، ولغاية سبعينيات القرن الماضي كان العمال الهنود ما يزالون يعملون في كركوك قبل إعلان تأميم النفط في العام 1975 من قبل الحكومة العراقية في حينها، بعدها غادر العمال الهنود العراق وتم استبدالهم بكوادر عراقية".
ويتابع بهاء الدين "هناك ذكر في النصوص القديمة للديانة الهندوسية تقول إن للزوجات حق المشاركة في الطقوس الأخيرة إذا مات الزوج دون أن يترك ولداً أو بنتاً وليس لديه شقيق ذكر، لكنهن ممنوعات من حضور مراسم حرق الجثة".
ويلفت إلى أن "حرق الجثة يجب أن يقوم به الابن الأكبر، وهناك نص ديني هندوسي يتعامل مع طقوس الجنازة ويُعتقد أنه يعود لأكثر من ألف عام. ولا يتطرق الكتاب لدور المرأة".
ويختم بهاء الدين حديثه بالقول "المحرقة أصبحت اليوم جزءاً تاريخياً وحضارياً من هوية كركوك ويمكن تحويلها إلى موقع مهم للباحثين عن التواجد الهندي في العراق، وإعداد دراسات عنها وما يدور حولها من أحداث كانت في الماضي".