عندما أُسدِل الستار على فترة المد القومي العروبي، حيث الأنظمة العربية التي أشبعت العرب بالشعارات الثورية المفرطة في فنطازيتها المنفصلة عن الواقع، وخصوصًا ضد إسرائيل، إذ وصلت الأمور إلى حد الزعم بأنهم سيلقون بـ"الصهاينة" في البحر، لم تسنح الفرصة للشعوب العربية بالتنفس. رغم أن هذه الأنظمة ذهبت جميعها أدراج الرياح وبقيت إسرائيل، فوجئ الجميع بالخميني، الذي لم يكتفِ بفكرة إلقاء الصهاينة في البحر، بل تقدّم بخطوة فنطازية أكبر عندما قال: "يجب إزالة إسرائيل من الوجود!".
معظم من عاصروا الثورة الإيرانية التي جلبت الخميني ورجال الدين المتطرفين إلى الحكم، يتذكرون جيدًا كيف سعى الخميني، ومن بعده نظامه، لإضفاء البعد الديني على الصراع مع إسرائيل والتأكيد على حتمية زوالها. وكان التصور السائد أنَّ العرب، ولا سيما بلدان المواجهة مع إسرائيل، قد كسبوا نصيرًا مميزًا. لكن سرعان ما خاب الظن تدريجيًا عندما استيقظ العرب على طوابير عديدة تابعة للنظام الخميني في البلدان العربية، وهو يقود هذه الطوابير كقائد أوركسترا مرددة "طريق تحرير القدس يمر عبر هذه المدينة العربية أو تلك"، وكأنها أنشودة "لامارسييز"، ما جعل الكثيرين يتساءلون عن العلاقة بين تلك المدن وتحرير القدس.
ومن أجل تحرير القدس، أعلن النظام الإيراني أنه يشكل جيش العشرين مليون. ورغم أن شعارات النظام كانت غير واقعية، إلا أن قطاعًا كبيرًا من الشارع العربي صدّقها، وظل يحلم بأن جيش نظام ولاية الفقيه سيرفرف بعلم القدس يومًا ما، تمامًا كما كان العراقيون يرددون شعار "لازم بالقدس يخطب أبو هيثم"، في إشارة إلى الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر. لكن لم يتحقق شيء، واندلعت حروب ومواجهات أكثر غرابة ودموية ودمارًا من حروب 1948 و1967، مثل حرب صيف 2006 بين حزب الله وإسرائيل، ومغامرة 7 تشرين الأول (أكتوبر) لحركة حماس، وكلا الطرفين مدعومان من إيران.
عندما هاجمت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، كان الجميع ينتظر الرد الانتقامي الإيراني الذي سيقيم الدنيا، ولكن جاء الرد الذي سخر منه الإيرانيون قبل العالم، وجاءت عملية اغتيال إسماعيل هنية وهو في قلب طهران لتكشف عن تردد النظام الإيراني في الرد، رغم أن خامنئي أوحى للعالم بأن الرد سيكون عنيفًا. لكن مع مرور الوقت، بان الضعف، وكأن لسان حال خامنئي يردد ما قاله امرؤ القيس في مجلس الخمر عندما بلغه مقتل والده: "اليوم خمر وغدًا أمر".
بعد الضربتين الإسرائيليتين القاسيتين للنظام الإيراني، جاءت هجمات إسرائيل الأكثر قسوة على حزب الله اللبناني، وكيل إيران الأهم. لكن الرد الإيراني لا يزال متوقفًا عند التهديدات اللفظية، تمامًا كما كان الحال مع تهديد ناصر كنعاني، الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، الذي كانت تصريحاته مجرد عبارات إنشائية لتغطية عجز النظام عن دخول مواجهة غير مأمونة العواقب. بل والأسوأ أن وزير الخارجية الإيراني أعلن في هذه الظروف المتوترة استعداد النظام للعودة إلى المفاوضات النووية.
المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة، ولن تبقى خارطة نفوذ النظام الإيراني على حالها، والنظام يدرك ذلك. لذلك عليه اتخاذ قرارات تحافظ على بقائه بأي ثمن.