حصل الذكاء الاصطناعي على أول جائزة نوبل. المقصود بالطبع أن من حصل على جائزة نوبل هما العالمان الأميركي جون هوبفيلد والبريطاني – الكندي جيفري هينتون. كانت لهما الريادة في ابتكار الشبكات العصبية الاصطناعية. هذه شبكات تحاكي مرحلة مبسطة جدا من الشبكات العصبية الدماغية لدى الإنسان والحيوان. بتكرار هذه الشبكات مليارات المرات وبتشبيكها وفق أولويات معينة للقيام بمهام محددة، يتحول الدماغ إلى عقل. بتكرار الشبكات العصبية الاصطناعية ملايين المرات يتحول الكمبيوتر إلى ذكاء اصطناعي.
لا شك أن التطور البيولوجي قام بالكثير من المهام مقدما، فنحن نولد قادرين على الرؤية والنطق والتحكم اللاإرادي والإرادي بالأعضاء والعضلات واللمس والتذوق وقضايا تفصيلية صغيرة من عمليات مبرمجة في الدماغ لا تحتاج إلى تطوير. ما يحدث هو زيادة تمرين على تمييز الأصوات مثلا أو تفسير الصور، فنصبح أكثر تهيؤا للحياة.
لكن يبقى الكم الأكبر من الدماغ متروكا للتطوير بأشكال مختلفة. هذا الدماغ يتطور ليصبح عقلا لطبيب وذاك لمهندس والآخر لممثل. ومن داخل صنف الطب يتمايز الملايين في ما بينهم ليصبحوا جراحين أو أطباء غدد أو أورام، أو من صنف الهندسة تتشعب الكفاءات المكتسبة بشكل مذهل لتقدم لنا الإنجاز العلمي الهندسي والرياضي الذي يقوم عليه العالم الحديث الذي نعيش فيه. أدمغة تتحول إلى عقول علمية وأخرى تميل إلى الأدب، تمتّعنا بالرواية والسينما والتشكيل وغيرها من الفنون. أدمغة تتحول إلى عقول لحرفيين يشتغلون في مهمة تبدو مستحيلة للبعض، مثل تركيب ساعة اليد الحافلة بالنوابض والتروس.
ما أن أعلن عن الجائزة حتى ربط العالم الأول الذي حصل عليها جون هوبفيلد بين سعادته بالحصول على الجائزة وقلقه من خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة. المشكلة ليست في التقنية ذاتها، ولكن بقدرتها الجامحة على الخروج عن المنضبط. هذا الخروج، كما وصفه العالمان هوبفيلد وهينتون، هو أشبه بتحقيق “عجائب مطلقة”.
حاولت أن أقرّب الأمر لنفسي في تفسير ما يعينه هذا العالم الجليل والمخضرم (91 سنة). ما يريد أن يقوله إن ما حدث مع العقل البشري يمكن أن يتكرر مع العقل الاصطناعي. البشرية كيّفت نفسها على التعامل مع فوضى تربية الأدمغة وتهذيبها لمنع تحولها إلى عقول سيئة. لا أعرف كيف يمكن توصيف العقل السيء، لكن عندما نتلفت من حولنا، نرى أعدادا هائلة من الحمقى والأغبياء أو ممن وظفوا عقولهم في الشر. عندما ولد هؤلاء، كانت أدمغتهم مثلها مثل أدمغة العباقرة والعلماء والخيرين والناس العاديين الذين يذهبون يوميا صباحا إلى أعمالهم. ولكن لأسباب ذاتية أو اجتماعية، ذهبت عقول البعض إلى التدريب السيء لتنتج الغباء والحماقة والشر. البنية الأساسية لمنظومة الذكاء الاصطناعي تشابه نوعا ما الدماغ البشري لدى الطفل الوليد، لكن الفارق يكمن في سرعة اكتساب المهارات من خلال التدريب والتوجيه. ومثلما أفلت الكثيرون من منظومة حماية المجتمعات لنفسها وامتلأ العالم بالحمقى، فإن من الوارد أن تتوالد منظومات صناعية بنفس الطريقة لننتهي بـ”ذكاء” اصطناعي غبي أو “حكمة” اصطناعية حمقاء أو مقصد شرير لماكنة تعيد تعريفها لما هو خير وما هو شر.
يريد هؤلاء العلماء أن يلفتوا انتباهنا إلى أن الأمر مختلف عن فكرة الاستخدام السيء للابتكار أو الآلة. ذكاء اصطناعي أحمق أو غبي شيء مختلف تماما عن تحويل سيارة مثلا من ابتكار لنقل الناس بلا كلل أو ملل، إلى ماكنة دهس وقتل بيد مهووس أو إرهابي. هذا الغبي الاصطناعي هو من/ما سيقرر.
العرب