مع تصاعد العدوان الإسرائيلى والضربات الأخيرة القاسية ضد حزب الله، تصاعد الجدل وخاصة فى كثير من المنابر المهمة، ورغم أن الحرب مازالت دائرة ـ ورغم كثير من الاعتبارات التى تحيط بالموقف، ومنها مصير المواجهة الإسرائيلية –الإيرانية ووضع الجبهات الأخرى الحالية والانتخابات الأمريكية إلا أن التساؤلات بدأت تفصح عن نفسها.
وفى الحقيقة أن هذه القضية مطروحة فى العقل العربى منذ عقود وليس اليوم وانفجرت بشكل أكثر وضوحا بعد ظهور حزب الله بملابساته، وكان لها صدى عميق فى لبنان وتفاعلاته السياسية المعقدة ثم امتد هذا الجدل أيضا حول أداء وسلوك حماس خاصة بعد السيطرة على غزة وانخراطها فى عدد من المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلى التى كانت لها تداعياتها على القضية، فضلا عن تساؤلات لم تتوقف بشأن الممارسات السياسية لهذه القوى وتأثيراتها المختلفة.
والحقيقة أيضا أن هذا النقاش صعب وممتد ودقيق ويكتسب سمة عاطفية أو منفعلة فى كثير من الأحوال بينما يتعلق الأمر باستراتيجية تحرير ونهج حياة فى عالم ظالم وشديد التعقيد، وأجد اليوم أن ما سأطرحه هو اجتهاد أولى يحتاج إلى نقاش عربى جاد بعيد عن الانفعالات:
أولا، أن المظلة التى أتحرك تحتها هى نفس مظلة الدولة المصرية وهى الالتزام بالقضية الفلسطينية ومن منطلق معايشة وظيفية والتزام شخصى بهذه القضية، ولعلى أذكر مثالا من بعض هذه التجارب، كنت شاهدا عليها وهى التحرك المصرى فى أعقاب انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية منتصف ٢٠٠٧ وبالإضافة لإجراءات عديدة شاركت فى وضعها اقترحت أن يخاطب الرئيس الراحل مبارك الرأى العام المصرى والفلسطينى بأن مصر ملتزمة بقضية الشعب الفلسطينى مهما حدث، وهو ما فعله مبارك بالفعل وموثق، وما كان ليفعله إلا بسبب تماشى هذا مع رؤية مؤسسية عميقة داخل الدولة المصرية حول علاقة مصر بالشعب الفلسطينى، وهى التى مكنت مصر تاريخيا من لعب الدور الرئيس فى عمليات المصالحة- التى لم تنجح رغم إخلاص جهودنا- وكذا الدور الرئيس فى التفاوض مع الجانب الإسرائيلى وإغاثة الشعب الفلسطينى عبر هذه السنوات الصعبة.
ثانيا، أن المقاومة حق شرعى للشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، حق ليس من حق أحد المنازعة فيه، ولكن علينا أن نفهم بهدوء أن تجارب الشعوب تحت الاحتلال مختلفة وتجارب التحرر الوطنى المصرى لا تتطابق والجزائرية، ولا السورية، ولا الهندية، ولا الجنوب إفريقية، وأن حركات التحرر التى تبغى النصر لقضيتها العادلة تبنى استراتيجيتها وفقا لطبيعة ظروفها وطبيعة الاحتلال، وأيضا طبيعة النظام والظروف الدولية.
وثالثا، أن الانقسام الفلسطينى بين غزة والضفة خطيئة كبرى وضربة خطيرة لكفاح هذا الشعب، ومن الموضوعية تذكر أن النضال الفلسطينى كان منقسما قبل ذلك فى صور مختلفة بحسب القوى العربية والدولية الداعمة لهذا الفصيل أو ذاك وأن هذا أضر تاريخيا بالموقف الفلسطينى، وأن ثمة أخطاء عديدة عبر هذه العقود السبع ربما تحتاج إلى دراسات ومقالات مطولة، ولكن هذا ليس وقت هذا الحديث.
رابعا، أن منطق التبرير للقوى التى ترفع شعار المقاومة مهما كان حجم أخطائها قد عمق من ظهور تيار عربى يحمل أفكارا متشددة فى الاتجاه المضاد ولا يكترث بما فيه الكفاية بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وثمة أخطاء مؤكدة لحزب الله فى إدارة التفاعلات السياسية داخل لبنان، كما أن القول بالولاء والمرجعية للمرشد الإيرانى يتناقض مع محورية الولاء الوطنى، وكذا الالتزام بالقضية الفلسطينية، وهذه قضية كبرى التجاوز عنها يعنى كمن يدفن رأسه فى الرمال ويتصور أن كل ما سيفعله مبررا، وبالنهاية لدينا إشكالات معقدة فى لبنان جراء هذا.
وفى نفس هذا البند إذا توقفنا عند حماس سنصطدم بمعضلة منذ اليوم الأول لأوسلو وهى الاتفاقية المشوهة التى بنيت عليها السلطة الفلسطينية ورفضتها حماس ثم حكمت بمقتضاها، وواصلت الحديث عن رفض أسس السلام حتى سنوات قليلة ماضية عندما أعلنت قبولها لفكرة الدولتين، ونسيت خلال ذلك أنها رسخت صورة سلبية نجحت آلة الدعاية الصهيونية فى توظيفها وعمق منها أيضا ممارسة سلطوية فى المناطق التى تسيطر عليها وأخطاء خارجية موثقة.
خامسا تحتاج المقاومة الفلسطينية إلى استراتيجية متعددة الأبعاد ويجب أن تجد من مصر وأطراف عربية مخلصة دعما ملموسا فى هذا الصدد.
توحيد الصفوف وتجاوز الخلافات الراهنة واختفاء الخطاب السياسى الدينى الذى لم يحقق إلا إرباك المشهد الفلسطينى، والتحرك داخل مظلة واحدة، فمن الطبيعى الاختلافات والتباين، ولكن حصيلة التاريخ الفلسطينى وطبيعة العدو الشرس والترتيبات الدولية الظالمة التى تنبع من الهيمنة الأمريكية تقتضى توحد فلسطينى رشيد.
بلورة استراتيجية كفاح جديدة تبنى على الإيجابيات التى تحققت من هذه الحرب الدامية واهمها انكشاف إسرائيل أمام المجتمع الدولى وصعود العديد من القوى الشبابية المعارضة لهذا الاحتلال الإسرائيلى والاستفادة من تراكم القرارات والمواقف القانونية والسياسية لصالح القضية، حتى لو كانت بدون جدوى حتى الآن، ولكن قد تصبح أدوات مهمة فى مجتمع دولى لا يتوقف عن التغير.
وأواصل طرحى منذ سنوات حول المقاومة السلمية والتشبث بالأرض، التى يرى البعض أنه لا طائل منها، وأن إسرائيل تواجهها أيضا بالعنف وهذا منطق يحتاج مراجعة، فالعنف الذى سيحدث لن يصل إلى عشرات الألوف من الشهداء وإلى كل هذا التدمير، واليوم أكثر من الأمس ومع هذا الموقف الدولى رغم ضعف أدواته قد يصبح هذا أكثر تأثيرًا، وربما يستحق هذا حديثًا آخر.
المصري اليوم