تفصلنا أيام قلائل عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولمكانة ذلك البلد، فإن العالم يشهد حالة من الترقب ويتابع باهتمام مآلات الأحداث. في أوروبا يؤمن كثيرون بأن هذه الانتخابات قد تغير وجه قارتهم إن هي أتت مجددا بالرئيس السابق دونالد ترامب، الذي كرر في أكثر من مرة وعوده بفض الشراكات الأمنية، وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي، إن لم “يدفع” الأوروبيون ثمنا مجزيا مقابل ذلك.
يعكس الإعلام الأوروبي حالة من القلق، الذي يتزايد مع مؤشرات صعود ترامب، الذي يمتلك شعبية لا يمكن الاستهانة بها، فالدول الأوروبية، بما فيها دول محورية كفرنسا وألمانيا، لا تستطيع البقاء دون غطاء عسكري أمريكي، خاصة في ظل ما يرون أنه تهديد روسي. في لقاءاته الجماهيرية، يتعمد دونالد ترامب إحراج وإخافة الأوروبيين، ففي إحدى مخاطباته يقول، إن أحد الأوروبيين سأله: إذا لم ندفع المال المطلوب وتمت مهاجمتنا من قبل روسيا، فهل ستقفون معنا؟ يقول ترامب إن إجابته كانت أنهم لن يدافعوا عن أوروبا، بل ربما يشجعون روسيا على التقدم. منطق ترامب، الذي تلخصه عبارة “أمريكا أولا” وسياسة “الانعزال”، يجد مساندة من ناخبين كثر. يؤمن أولئك بأن حالة الاعتماد على القوة والردع الأمريكي، التي بدأت مع التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية وإنزال النورماندي 1944، يجب أن تنتهي، أو يجب على من يتلقون الخدمة أن يدفعوا مقابلها.
الجمهوريون باتوا يطرحون أسئلة جديدة حول ما يعنيه التحالف أو التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والأوروبيين. يؤيد هؤلاء سياسة “الانعزال” ويرون أن كل التعاون والتحالفات هو لمصلحة الأوروبيين فقط، فعلى الرغم من تكريس مبدأ الدفاع المشترك وفق المادة الخامسة الشهيرة من مواد الحلف الأطلسي، إلا أنه من غير الوارد أن تتعرض الولايات المتحدة لهجوم أو تهديد جاد، ومن هنا نفهم سؤال ترامب: ماذا نستفيد من الناتو؟ خلال الأشهر الماضية عبر كثير من أعضاء الكونغرس عن هذه الأفكار مطالبين بأن تنكفئ الولايات المتحدة على نفسها وأن توجه مواردها نحو شعبها وأن تحتفظ بالمال، الذي يدفع من أجل شراكة بلا طائل، بل إن سياسيين مضوا أكثر من ذلك لانتقاد الدعم المقدم لأوكرانيا. تأخذ أوروبا، خاصة دول أوروبا الشرقية، كلمات ترامب على محمل الجد وفي ذهنها ما حدث حين تركت تشيكوسلوفاكيا وبولندا لقمة سائغة لهتلر في العامين 1938 و1939 على التوالي، أو حين ترك الشرق الأوروبي وحيدا أمام التوسع الروسي.
عاملان جعلا أوروبا تشعر بالانكشاف الأمني، الأول هو تصريحات دونالد ترامب، التي وضعت الدول الأوروبية في مواجهة حقيقة دامغة، وهي أنها لن تستطيع أن تصمد طويلا خلال حرب قاسية، من دون معاونة الأمريكيين. أما الثاني فهو الحرب الأوكرانية نفسها، التي كشفت بدورها حالة الارتخاء العسكري، التي تعيشها القارة، التي لم تكن تأخذ أطروحة الدخول في حرب فعلية على محمل الجد. من الحقائق كذلك أن الدول الأوروبية “الكبرى” لا تصنع إلا قليلا من السلاح المتطور، الذي تأخذ دورته الإنتاجية فترة طويلة. طائرة رافال الفرنسية، على سبيل المثال، تأخذ في عملية تصنيعها ما لا يقل عن ثلاث سنوات. أعاد كل ذلك إلى الواجهة النقاشات حول الاتحاد وإمكانية الاستقلال الدفاعي الأوروبي، التي تبدو صعبة لسبب رئيس وهو أن المسألة العسكرية تظل من المسائل، التي تتعامل بها الدول الأوروبية مع بعضها بعضا بكثير من الارتياب، الذي يجعلها تميل لحل مخاوفها الأمنية بشكل فردي. نلاحظ هنا أن الدول الأضعف تفضل أن تشتري معدات وطائرات عسكرية أمريكية بدل أن تشتري منتجا فرنسيا مثلا. السبب في ذلك لا يعود فقط لجودة المنتجات الأمريكية، وإنما لأن هذه الصفقات تضمن، على نحو ما، الحفاظ على علاقة جيدة مع الشركاء الأمريكيين. منذ بداية الحرب الأوكرانية، وبعكس الأصوات المتحمسة، التي كانت تطالب بانخراط مباشر لصالح أوكرانيا، كان عقلانيون يرون أن أوروبا، إذا كانت بالفعل ستترك وحيدة، فإن من الحماقة أن تسعى للدخول في حرب أو صراع، لاسيما مع دولة كبيرة مثل روسيا. يبدو التحدي أكبر من مجرد نجاح أو فشل ترامب في العودة إلى البيت الأبيض، فمن الواضح أن رجل الأعمال، الذي نجح في وضع الصين في قائمة التحديات الأمريكية، نجح أيضا في إقناع سياسيين من مختلف التوجهات بشعار “أمريكا أولا”، وهو الشعار، الذي لا يقتصر على إعادة النظر في التحالفات العسكرية فقط، بل يمتد للعلاقات التجارية أيضا.
اليوم، وفي عهد رئيس ديمقراطي، تتبع الولايات المتحدة سياسة “تخفيض التضخم”، التي تسن بموجبها قوانين خاصة، تدور حول تشجيع الصناعات المحلية، وتخفيض الضرائب ومنح المنتجات الأمريكية قدرة على المنافسة في السوق المحلي، لتكون بديلا عن المنتجات المستوردة، بما في ذلك المنتجات الأوروبية. تمضي التشريعات الأمريكية الجديدة أكثر من ذلك، فتستهدف الشركات الأوروبية، وتقدم لها تسهيلات وإغراءات من أجل نقل عملها للولايات المتحدة، ما ستكون له تأثيرات على اقتصادات دول كبرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وهو ما دعا الرئيس الفرنسي ماكرون للقول، خلال زيارته لواشنطن، إن مثل هذه التشريعات سوف تقود لانقسام الغرب. فكرة “الاتحاد الأوروبي”، الذي وجد ليكون موازنا للقوة الأمريكية، لا يبدو أنها حققت أغراضها، فعلى الرغم من العدد الكبير للدول المنضوية، إلا أن النتيجة كانت مزيدا من الاعتماد على الولايات المتحدة. بروكسل يصعب عليها أن تكون معادلة لواشنطن، فالأخيرة يسهل عليها أخذ زمام أمرها وقراراتها، فيما تختلف الدول الأوروبية حول كل شيء تقريبا ويتطلب أخذها قرارا حاسما عشرات الاجتماعات. الاتحاد أيضا لم يحقق الفوائد المرجوة المتعلقة بتعظيم الموارد، فهو حتى في هذا الباب أضعف من الولايات المتحدة، التي لا تواجه أزمة طاقة وتساوي ما تحتويه أرضها من موارد ما يفوق إمكانيات الدول الأوروبية مجتمعة. يغبط الأوروبيون الأمريكيين على امتلاكهم ما يكفي من الغاز والبترول، فبعكسهم، لا يمكن لأحد أن يملي عليهم شروطه أو أن يبتزهم، في ما يتعلق بتوريد الطاقة، كما فعلت روسيا، التي كانت دول أوروبية تعتمد عليها بشكل كامل. إلى جانب ما يتعلق بالأمن والدفاع والتجارة، تقلق أوروبا من دعم عودة ترامب للحركات، التي تهدد “القيم الغربية”، خاصة المتعلقة بالعائلة، حيث يتبنى الداعمون لترامب مفهوم الأسرة بشكله التقليدي/المسيحي المعاكس للمفاهيم النسوية الحداثية. يدعو المحافظون الداعمون لترامب لعودة النساء للمنزل، ولرفض الميول الجنسية غير التقليدية، مثلما تفعل جماعة “تراد وايفز”، التي تجد أعدادا متزايدة من الأنصار من النساء الرافضين لقيم الليبرالية و”التقدمية”. هذه الدعوات، التي بدأت تتسرب للقارة الأوروبية مطالبة بعودة المرأة التقليدية غير العاملة، التي تكرس حياتها لبيتها وأطفالها، تبدو مقلقة كذلك للسياسيين الليبراليين الأوروبيين، خاصة أنها لم تعد دعوات معزولة، بل أفرزت ناشطات مقتنعات بها ومكافحات لأجلها، حتى بدت كصيحة يمكن تشبيهها في قوتها بالصيحة، التي أنتجت ولادة التيارات النسوية، التي كان خطابها متأسسا، للمفارقة، على انتقاد المرأة التقليدية المحافظة، التي تتمحور حياتها حول بيتها. الحق في تغيير الجنس وفي الإجهاض هو ما يرى أصحاب “القيم الغربية” أنه مهدد تحت ضغط التيارات اليمينية الصاعدة في الولايات المتحدة وفي أوروبا.
القدس العربي