نجحت ثورة أطفال الحجارة في وضع الأسس الأولى لقيام الدولة الفلسطينية من خلال اتفاق "غزة أريحا أولاً" وتأسست السلطة الفلسطينية بدون الحاجة إلى أصوات المدافع التي لم تستطع من قبل أن تكون الأداة في تكوين نقطة البدء. ثم بدأت خسارة الفلسطينيين بدءًا من الجدار العازل ومصادرة الأراضي وانفجار ظاهرة الاستيطان مع ظهور الانتفاضة الثانية، التي دخلها الإسلام السياسي بسلاحه وثقافته، ما أدى إلى نقل المشهد السياسي إلى مسألة اختلطت فيها الخطابات الشعبوية بالشعارات الدينية، بالحماسة، بكثير من استحضار المستقبل الافتراضي والتاريخ الذي رحل منذ أمد.
ثم استولت حماس على غزة، وصعدت غزة، ثم احترقت غزة، وبات يطفو عليها الركام والأشلاء، وعشرات آلاف الجرحى ممن ستستمر حياتهم في عجز دائم. ثم جلس حملة السلاح على أنقاض الفكرة التي انتصرت من وجهة نظرهم رغم كامل المأساة الموجودة، وبالتالي إن إعادة غزة إلى ما كانت عليه قبل حكم حماس باتت أكبر من معادلات السياسة وأكبر من قدرات أطفال الحجارة، الذين انتصروا عندما غلبت في وجدانهم "المصلحة" في القضية التي انتفضوا لأجلها، وبالتالي شتان ما بين ثورة أطفال الحجارة وثورة أصحاب الأيديولوجيا الذين أوصلوا القضية الفلسطينية إلى ما هي فيه.
هنا بالضبط تبرز الإشكالية ما بين مسألتين، الإيديولوجيا والمصلحة، فالإيديولوجيا التي جاءت لتحل مكان الثقافة كان يستحيل عليها أن تدير المشهد إلا بشكل قسري، لأن الحالة الفلسطينية ليست استثناءً، من هنا كان يسير إلى جانب النشاط الدعوي في غزة قوة اللجنة التنفيذية، والتي كسرت كامل المحرمات خلال السنوات الماضية، وصلت حد الاعتداء ليس على الرجال فحسب، ولكن حتى النساء، وهي تسجيلات موثقة منها الاعتداء على المرأة الشهيرة "أم رجب وشاح" المعروفة بأم الأسرى والتي ضربت وهي في الثمانين من عمرها، ما يعني أن الإيديولوجيا ليست هي التي تسوق المشهد في غزة، فهناك مسألة قهر الرجال والنساء أيضاً.
من الطبيعي أن يترك صعود الإيديولوجيا القسري أثراً كبيراً في المنحى الاجتماعي، وانقساماً خطيراً خصوصاً عندما تخترق الدين، ثم تختطف الدين، ثم تستغل الدين لإثبات الأصالة والانتماء، ثم تجعل كل ما بجوارها نقيضاً لها، من خلال إثبات الذات عبر خطاب شعبوي وفضاء إعلامي واسع تم افتتاحه لها، أعاد طرح مفهوم النضال الفلسطيني من دائرة السلمية، إلى دائرة العنف الذي يبرر العنف، ولكنها الرصاصة البسيطة التي تبرر الدبابة والطائرة وغير ذلك، ثم ينعكس ذلك على عموم المشهد الفلسطيني، لتصبح المعادلة الداخلية الفلسطينية غير قابلة للحل، فلا هم الإسلامويون يريدون الإقرار بالنتائج التي أوصلوا إليها الحالة الفلسطينية، ولا هم يريدون التنحي جانباً لإعادة الحراك السياسي إلى طبيعته الأولى، وبالتالي يبقى الخطاب الشعبوي يأخذ مساره بعيداً عن الواقع، ليتحول الآن إلى خطاب مناشدة للشارع العربي بالخروج على حكامه بذريعة نصرة القدس، ما يعني ذلك هو مسألة استغلال الخطاب الديني في مزيج المصالح السياسية، وهو الخطاب الذي لا يزال قادة حركة حماس يرسلونه للشارع العربي، ليس بقصد رفع المعاناة عن الفلسطينيين، ولكن من أجل الوقوف إلى جانب حماس كحركة بمشروعها الذي هي ترتكز عليه.
في الوقت ذاته كانت الدول العربية منذ اليوم الأول مستمرة في محاولة وقف الحرب إلى جانب إغاثة أهل غزة، بينما نجد أن وقف الحرب ربطته مصالح مشتركة، بين اليمين الإسرائيلي الذي يريد استكمال شطب فكرة الدولة، وبين حماس التي شطبت السلطة من أجندتها ومنعتها من اليوم الأول من الشراكة السياسية خصوصاً وفقاً للأمم المتحدة المسؤول القانوني عن قطاع غزة، غير أن مشهد حماس بقي يتمثل في عنوان واحد، غزة بقيادة حماس أو لا وجود لغزة، وهذا ما نقرأه في سلطة فوق الركام.
من هنا نقول، في مسارات العمل الوطني الصحيحة، التي تقوم أصلاً على تقديم مصالح الشعوب وأولوياتها، يمكن للجميع المشاركة في العملية النضالية لأن المشهد واضح لا لبس فيه، تماماً كما فعل أطفال الحجارة. ففي عالم الإيديولوجيا كل شيء قد يصبح مقلوباً، فالإيديولوجيا التي ترى نفسها أنها تستند إلى الدين هي صناعة بشرية لا تقبل إلاّ رأيها فقط وترفض الجميع.