منذ انطلاق مجلس التعاون، أبرزت الدول الأوروبية اهتمامها بمشروع دول الخليج الذي ظل على هذه الدنيا من أيار/ مايو 1981، متشكلاً من ستة دول خليجية مستقلة، تملك عدة مواصفات غير عادية، تولدت من هذه المواصفات سطوة غير مسبوقة صاحبت هذه الدول منذ منتصف الستينيات القرن الماضي، تصاعدت متانتها مع مرور الزمن مع التبدلات التي مست مكونات العالم التي رسمتها الحروب العالمية في القرن الماضي، وأضافت تقاسيم جديدة على خريطة الخليج، وأهمها استقلال دولة الإمارات، وقطر والبحرين بداية السبعينيات ورسوخ النظام السياسي في سلطنة عمان وتصاعدت متانة المملكة العربية السعودية مع استكمال اتجاهات الدبلوماسية الكويتية.
جاءت ولادة مجلس التعاون من حقائق أكدتها تصدعات في العالمين العربي والدولي، فتكاثرت الخلافات في دنيا العرب بين أعضاء الجامعة العربية بعد تسلل الأيديولوجيات لمواقع الحكم في سوريا والعراق والسودان ومغامرات نظام ليبيا غير المنضبط، وتوقيع مصر اتفاقية سلام مع اسرائيل، وتصاعدت نزعة التسيد في بغداد، وتوجهاتها المدمرة نحو الخليج، بالإضافة إلى نظرة الأسرة العالمية تجاه الانظمة الخليجية باعتدالها ونضج قادتها وحسن دبلوماسيتها النفطية والتزامها بمبادئ الامم المتحدة وقواعدها في العلاقات بين اعضاء الأسرة العالمية، كل هذه الملامح الخليجية المريحة أدت إلى ثقة جامعة في قيادات الخليج وتصاعد موقع الثقة في حسن تصرفها، لاسيما في ملف الطاقة التي وفرت لدول الخليج سطوة غير مسبوقة في عالم السياسة والاقتصاد وارتباطات المال.
وهي سطوة الندرة التي تتولد من تملك سلعة يحتاجها كل البشر ويملكها بعض البشر، ووجودها يعني الاستقلال والاستقرار، وتقلصها يخلق الاضطراب ويسقط الانضباط بين الدول.
وقعت دول الخليج الست على وثيقة قيام مجلس التعاون في مايو 1981، بدعم عالمي مطمئن لحجم الشعور بالمسؤولية التي يلتزم بها قادة الخليج، معترفاً بأن المجلس يشكل تطوراً استراتيجياً حيوياً في نظام الاستقرار العالمي.
وبهذا الشعور تواصلت الدعوات، لاسيما من الدول الأوروبية، للتعرف على خطوات المجلس المستقبلية، وكانت أول دعوة من فرنسا التي جاء وزير خارجيتها إلى الرياض، موجهاً دعوة شخصية للأمين العام لزيارة باريس، وذهبت إلى باريس وسط ترحيب مؤثر، والتقيت مع الوزير الفرنسي تشاسوا المدرك لمخزون القوة التي يملكها مجلس التعاون، وتوالت الدعوات منتقلاً إلى فرانكفورت ولندن وأمستردام، ودول اسكندنافيا وصولاً إلى فنلندا.
ولم تنحصر الاتصالات في إطار الأمانة العامة لمجلس التعاون وإنما شملت وزراء الاقتصاد والمال والتجارة والنفط لدول المجلس.
كان المرحوم السيد يوسف الشيراوي، وزيراً للصناعة والتخطيط في البحرين، وهو متحرك دائماً، طارحاً مقترحات لا تتوقف، متواصلاً مع مختلف وزراء الاتحاد الأوروبي، لاسيما وزير الاقتصاد الألماني الذي يتشابه مع الوزير الشيرواي في خفة دمه ولياقة مقترحاته، ومن تلك الشبكة من التواصل، تم وضع برنامج لاجتماعات الوزراء المعنيين، يلتقون في الرياض وبروكسل، تمهيداً للوصول إلى إطار ينظم لقاءات الوزراء، ومن هذه المشاوارت، تولت أسبانيا تنظيم لقاء اقتصادي واسع بين الطرفين ضم خبراء المال والتجارة والنفط، حضره ممثلون من جميع دول المجلس ومن الاتحاد الأوروبي، وانطلق في مدينة غرناطة جنوبي أسبانيا، وفي القصر الأحمر الذي كان مقر آخر خلفاء العرب، عبدالله بن الأحمر، مودعاً المدينة بدموع تتدفق من عيون لم تثمن المعنى التاريخي لتلك الحادثة.
كانت ندوة ضخمة بترتيبات رائعة وبأجواء تفاؤلية وكنت أترأس وفداً للأمانة العامة، مدعوماً من مساعدين متخصصين، وكانت الحصيلة الاتفاق على حوار ثنائي بين الطرفين لمناقشة التعاون، وبدأت الاجتماعات بين الطرفين، كان السفير مأمون كردي سفيراً في الخارجية السعودية ممثلاً للمجلس في حواراته مع الاتحاد الأوروبي، وتواصلت الاتصالات حاملة أجواء تفاؤلية، حيث تم الاتفاق في عام 1988، على توقيع اتفاقية تجارة حرة بين الطرفين.
انطلقت المفاوضات لتحقيق اتفاق تجارة حرة بتركيز على التجارة ومحتوياتها في مناخ يتميز بالارتياح، وباليقين بأن المفاوضات لن تزيد عن عامين، كان الجانب الخليجي يتحدث في التجارة ومحتوياتها، واقتناعاً بأن النجاح سيفتح الأبواب لحوارات تنموية تمس جميع المسارات.
لم تنفتح أجواء المفاوضات وفق ما كنا نتوقعه من تركيز على التجارة وتوابعها، وإنما أخذت منحى بعيداً عن ملفات التجارة، فجاءت مقترحات تتحدث عن قضايا بعيدة عن موضوع المفاوضات، حقوق الإنسان والمساواة وتلميحات بتقبل أوضاع لا علاقة لها بالتجارة ولا يمكن أن تتعايش معها الثقافة العربية والمبادئ الاسلامية.
كانت الخلافات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي سبباً في تأجيل تحقيق التفاهم بين الطرفين، ظلت كذلك إلى أن برزت وقائع استأثرت بالأولوية في اهتمامات الدول، أهمها مخاطر تبدلات المناخ وكلفتها الثقيلة على الواقع الانساني والجغرافي والسياسي على الخريطة العالمية، الأمر الذي وفر بيئة سهلت العقبات التي كانت سبباً في التأجيلات والتوقفات.
جاء الاجتماع الأول للقمة الأوروبية - الخليجية فاتحاً الطريق لتعميق التواصل بين الطرفين ليشمل قضايا استراتيجية تمس استقرار الطرفين وتفاهمات سياسية لا مفر منها لتحقيق الانسجام والتوافق في ملفات حساسة تمس أمن الدول، لاسيما في ملفات تحولات المناخ وخطورتها، وملف الطاقة وديمومة توفرها، والتعامل معها وفق واقع الندرة في أهمية وجودها بسعر مقبول للجميع وفي اطمئنان عام بتوافرها دائماً.
لا مفر من التوافق بين الاتحاد الاوروبي ومجلس التعاون، هكذا يسجل منطق المصالح، وهذه حقيقة عمقتها شبكة الترابط الاستراتيجي والأمني والسياسي والاقتصادي والتفاهم الفكري والتشاور السياسي، كل ذلك لتعميق الوعي لدى شعوب الطرفين، حول تداخل المصالح وترابط المصير، وبذلك تؤمن الطرق للطرفين للاتفاق نحو اتفاقية تجارة حرة بين الاتحاد الاوروبي ومجلس التعاون، وكلنا قناعة بأن اللقاء الثاني للقمة الأوروبية-الخليجية الذي سيتم في الكويت سيشكل تحولاً في تسريع الطرفين للوصول إلى اتفاق تجاري بين الطرفين.
روّاد الكويت في السياسة والدبلوماسية
شهد مركز الكويت للدراسات التاريخية، الذي يشرف عليه الباحث الدقيق د.عبدالله الغنيم، يوم الثلاثاء الماضي، لقاء غير مسبوق بمناسبة صدور كتاب سيرة السيد عبدالرزاق محمود الرزوقي، الذي تبنته أسرته الكريمة تعريفاً بمسيرته وتقديراً لأعماله.
وقد كنت متحدثاً فيه، مرتاحاً لما حققه الكتاب الذي أعده مختصون في فنون البحث والكتابة، والحقيقة أنني وجدت في الكتاب ما يزيل غموض الغلاف، فالكتاب الذي كان متطرقاً لمسار حياة السيد عبدالرزاق الرزوقي الفترة التي قضاها مع المعتمدية البريطانية، لاسيما في البحرين والإمارات، بعد ترك عمله في المعتمدية البريطانية في الكويت، ذاهباً إلى البحرين وكيلاً في المعتمدية، ويذهب منها إلى الهند ليدرس القانون ويعود مكملاً عمله في البحرين محققاً نجاحاً حمله إلى أخطر المواقع، حيث عيُّن وكيلاً في المعتمدية البريطانية في الشارقة.
يوضح الكتاب المعتمد على الوثائق البريطانية كيف تعامل وكيل المعتمد مع حكام المنطقة الذين تعايشوا مع الحرب العالمية الثانية، التي أشغلت بريطانيا وأثرت في نوعية تعاملها مع قضايا الخليج، كانت المجاعة والحاجة للمواد الغذائية التي كانت تخضع لقيود التصدير من الهند، وكذلك الدواء، والاختلاف بين الحكام وشكوكهم حول التنقيب عن النفط وتخوفاتهم من نوايا بريطانيا، وضعف مداخيلهم المادية مع انخفاض التصدير وشح الاستيراد، ويشير الكتاب إلى أسلوب التعامل الذي تبناه السيد عبدالرزاق بتوفير الاحتياجات وتطويق المخاوف وصد الخلافات بين الحكام، وتطمينهم في جودة الحياة القادمة، واستمر في عمله عشر سنوات موظفاً ذخيرته من المفردات الناعمة، مستحضراً نزعة التفاؤل، ومبشراً بمرحلة الاستقرار ومؤكداً على مستقبل واعد يحمل خيرات المستقبل.
كنت أرى المرحوم السيد عبدالرزاق الرزوقي متسلحاً بغموض الصمت، وتولى هذا الكتاب كشف الحقائق التي كتمها وأخفاها السفير المرحوم عبدالرزاق الرزوقي، ونبقى في انتظار مبادرات من آخرين.
القبس