جاء عنوان المقال في تصريح مني كأمين عام لمجلس التعاون خلال عنفوان الحرب العراقية - الايرانية، واضطراب الوضع في سوريا ولبنان، وغياب التفاهم الاقليمي لمسببات أفرزتها الشعارات التي تبثها أنظمة ايران والعراق وسوريا وبعض المنظمات الفلسطينية، وكان مجلس التعاون في سنواته الأولى التي طغت فيها مخاطر التمدد في الحرب العراقية - الايرانية وضرورة تطويق المجلس من مخاطرها وتأثيراتها مع جهد متواصل لوقفها، وفوق ذلك دعم صمود العراق لكي تنتهي الحرب دون إضرار لأي طرف، لكن الجانب الايراني لم يهتم بهذه المساعي التي بذلها مجلس التعاون لوضع نهاية لها، لأن قناعة المرشد بأن نهج إيران الثوري مدعوماً بمباركة سماوية سيحقق النصر، ولذلك فشلت جميع الجهود، فلم يهتم المرشد العام في ذلك الوقت بحرص دول الجوار ومساعي الأسرة العالمية لإيجاد حل سلمي لها.
ولم تكن الاوضاع في اليمن، خاصة في جنوبه، تعطي مساعي المجلس للحلول السلمية دعماً دبلوماسياً مسانداً، وانما كان الجنوب مشغولاً بدعم جماعة ظفار ضد السلطنة، ولهذه المسببات التي ولدت الاضطراب الاقليمي كان التعاون العسكري والامني بين دول المجلس يأخذ الأولوية، فلا يمكن تحقيق تطور في الاقتصاد والتجارة والاستثمار اذا كان الوضع الأمني غير مستقر في الجوار الجغرافي ويفرز المخاوف من انعكاساته السلبية على دول المجلس.
ومن ذلك الواقع اتسعت مأمورية المجلس لتضم التعاون الأمني في مسيرته وضمن أهدافه، وتصاعدت الجهود لتأكيد القناعة الجماعية لتعظيم أمن الدول الأعضاء وزيادة الجهود لتعميق الترابط الامني بين الاجهزة الدفاعية في دول المجلس، والحقيقة ان المنطقة لم تنعم بالاستقرار منذ الحرب العالمية الثانية، وزادت مع مأساة فلسطين وقيام اسرائيل، مع تصاعد حدة المخاطر مع تولي الانظمة الراديكالية السلطة في إيران، وسوريا، والعراق، واليمن، ووسط هذه الاجواء المزعجة جاء مجلس التعاون ممثلاً لتجمع مسالم يتميز بالاعتدال، داخلياً ودبلوماسياً، حريصاً على الاستقرار، محافظاً على حدوده وعلى سيادته وسلامته، وملتزماً بالتقاليد ومفاهيم التآخي في نهجه الداخلي وفي الترابط بين دوله، وحاملاً رسالة الصداقة مع جميع الأطراف.
كنت جالساً مع المدعوين في جلسة الافتتاح لقمة مجلس التعاون التي عُقدت في الكويت يوم الاحد الماضي، الموافق اول ديسمبر، مستمعاً الى خطاب سمو الامير الشيخ مشعل الاحمد الجابر الصباح، متابعاً مفرداته تجاه دول الجوار، التي حملت رسالة المودة وحسن النوايا، لاسيما في اشارته الايجابية الى إيران، طارحاً صدق التمنيات لتحقيق التفاهم بين دول الاقليم من دون طموحات تثير المخاوف وتولد التوتر، مترجماً حرص دول المجلس على سلامة الجميع وعلى هدوء المنطقة التي لا مفر من استقرارها لترابطها الاستراتيجي بالامن العالمي. وهنا لا بد من التأكيد على توقعات الاسرة العالمية التي تضم الدول الكبرى والدول النامية بأن تبذل دول المجلس المزيد من الجهد للمساهمة في اخراج المنطقة من دوامة التوتر واستمرار المخاطر وتواصل الاضطراب، لا سيما مع النغمة الاعتدالية المستجدة في دبلوماسية إيران ومدى جدية المسؤولين في طهران الالتزام بترجمة المفردات الايرانية المعتدلة الى سلوك إيراني مستجد يساهم في حلول المشاكل بأسلوب سلمي تفاهمي وبناء، والواضح ان مجلس التعاون يحمل الأمل الكبير بحدوث تطورات جذرية سلمية الاهداف معتدلة التعبيرات، خاصة ان بعض اعضاء المجلس ملتزمون بالتواصل مع حكومة إيران، مع تأكيدات قطر في متابعة التواصل، واستمرار مسار التفاهم الإيراني - العماني الهادئ، ما يثري حبال الترابط بين الطرفين ويسهل دروب التفاهم لتحقيق الاهداف المشتركة في تأمين الاستقرار في المنطقة، وأتمنى ان تقف الحكومة الايرانية عند الفقرات التي خص فيها سمو الامير حكومة ايران وآماله في مسار مستقبلي بناء.
انتهى الاجتماع القيادي الذي استغرق أكثر من ثلاث ساعات، بينما كانت القمة في فترة الثمانينيات والتسعينيات تمتد ليومين، فالزمن يتبدل، وما كان يحتاج الى ساعات في الماضي تحول الى اهتمامات تنحصر في دقائق، وما كان يتطلب يوماً كاملاً صار مشروع ساعة، لأن أثقال المسافات انكمشت بفضل تسلل التكنولوجيا وترويضها لخدمة الإنسان في كل المجالات، مع الانفتاح الدائم للتواصل الثنائي، ويدرك القادة في دول المجلس التعاون حجم الاهتمام العالمي بالقرارات التي يتخذها المجلس، ويزيد هذا الاهتمام العالمي وبشكل إيجابي للدور الاستثناني الذي يقوم به المجلس لمصلحة الامن العالمي واستقراره، ليس بسبب حجم المساهمات التنموية التي تقدمها دول المجلس دعماً للدول المحتاجة فقط، وانما لحجم الوعي السياسي لدى الدول الأعضاء في تحمل المجلس مسؤولياته الحساسة بسبب مخزون الطاقة وحاجة العالم لهذا المخزون وتعامل دول المجلس مع هذه السلعة النادرة التي يحتاجها الكثيرون ويملكها القليلون بكل مسؤولية وبوعي لحقوق الآخرين في توفير ما يحتاجون اليه من هذا المخزون النادر، فهذا الوعي السياسي واسلوب الاعتدال الموجود في الدبلوماسية النفطية لدول الخليج التي تراعي حقوق المستهلك في التمتع بالطاقة وبسعر معقول يرضي الطرفين، الامر الذي طوق مساعي الآخرين من المصدرين الذين يريدون رفع الاسعار الى درجة تؤذي الاقتصاد العالمي.
في عام 1973 كنت في نيويورك مندوباً دائماً لدولة الكويت في الأمم المتحدة عندما طرح الرئيس الجزائري الهواري بومدين في خطاب امام العالم مدافعاً عن حقوق الدول المنتجة، كان التوتر يتسيد الأجواء داخل الأمم المتحدة، بسبب وقف التصدير الى الولايات المتحدة، وبرزت تعبيرات ومفردات تترجم التوتر في ذلك الوقت، والحقيقة ان الدورة الخاصة نجحت في ترضية الطرفين المنتج والمستهلك، جاء الدور المؤثر في تلك الحصيلة من نهج الاعتدال الذي احتضنه الوفد السعودي، مدعوماً بدعم خليجي ومشاركة بعض الدول المنتجة، مثل فنزويلا، وخرجت الدورة بوثيقة يستهدي بها الطرفان وتزيل التوتر الذي تسيد تلك الدورة بسبب ثقل التهديدات التي تعرضت لها بعض الدول المنتجة، مع مفردات خرجت من عصبية المستهلكين وتخوفهم من شلل اقتصادي قد يمسهم من تلك الواقعة، وقد جاء التفاهم بين الطرفين يحمل اعترافاً بحقوق المنتج في سعر معقول مع تأكيد مسؤولياته تجاه الدول المستهلكة.
هذا التقدير العالمي لدبلوماسية الاعتدال لدول المجلس لم ينحصر في مسار الطاقة فقط، وإنما شمل المسار الدبلوماسي العام المتميز في عقلانيته والمساهم الاكبر في تأمين الهدوء والاستقرار في المنطقة، مع تأكيد استمرار تواصلها مع إيران، ومع ذلك ما زالت الحرائق تشتعل في المنطقة، وما زال مجلس التعاون يمارس دبلوماسية الوقاية، محصناً دول المجلس من حرائق المنطقة، مشيداً جدار الوقاية، ويستمر المجلس فعالاً في بقعة مشتعلة، متخذاً الحذر الدائم من اسقاطات هذه الحرائق.
جاءت حصيلة قمة مجلس التعاون في الكويت منسجمة تماماً مع هذه التوقعات العالمية، ما يزيد مسؤوليات المجلس في تعميق الامن والاستقرار في جميع زوايا المنطقة.
القبس