ترامب وملامح رئاسة أميركيّة جديدة

لعل السؤال الذي يشاغب عقل الكثيرين في الداخل الأميركي وفي خارجه هو "هل من ملامح لولاية الرئيس دونالد ترامب الجديدة؟ وهل ستكون نسخةً مستنسَخة من ولايته الأولى، أم أن هناك ملفّات مثيرة وخطيرة، ربّما سيوليها الرجل اهتماما بالغًا منذ بدايات أيامه في البيت الأبيض؟".

المعروف عن ترامب أنه رجل غير متوقَّع، بمعنى أن أحدًا غير قادر على التنبؤ بخطواته وقراراته، وكثيرًا ما بدا انطباعيًّا عفويًّا، وقراراته وليدة اللحظة انفعاليّة.

مساء الأحد الماضي وعبر شبكة "إن بي سي نيوز" الأخباريّة، ولأكثر من ساعة، بدت خارطة الطريق لولايته القادمة واضحةً، عبر حوار جريء وصريح مع مذيعة برنامج "قابل الصحافة" كريستين ويلكر.

يصعب على المرء أن يُجمل في مقال واحد خطوط وخيوط ما يتطلّع إليه الرئيس السابع والأربعون في تاريخ رؤساء أميركا، والوحيد بعد الرئيس جروفر كليلفلاند، الذي يفوز بفترتين رئاسيّتين غير متتاليتين.

مهما يكن من أمر، تبدو القضيّة الأولى المسيطرة على عقل ترامب، الحدود والهجرة، ثم قضية تخفيض الضرائب بشكل واضح.

الحدود والمهاجرين المخالفين هما الشغل الشاغل لترامب، انطلاقًا من قناعاته بأن هناك من يفرّغ سجون بلاده على الحدود الأميركية، بل أكثر من ذلك أن هناك من يقوم بتفريغ المصحّات العقليّة، ويبعث مرضاها لأميركا.

هل سيعيد ترامب فكرة بناء سور حديدي مع المكسيك، أم أنه لا وقت لديه، إذ سيسارع إلى حركة ترحيلات لم تشهدها أميركا من قبل؟

لم يعط ترامب المزيد من الإيضاحات، غير أنّ المؤكد أنها ستكون قضيّةً إشكاليّة كبرى، ستختلف من حولها الولايات الجمهورية والديمقراطية، وسيتساءل البعض عن مدى تأثيرها على توافر الأيدي العاملة وبالتالي الاقتصاد الأميركيّ.

أمّا عن تخفيض الضرائب، فهو شأنٌ سيستدعي اتّهامات حاضرة دومًا من الديمقراطيّين، بأنه صديق الطبقة الثرية ومليونيرات أميركا، في حين أنه لا يشغل عقله بالطبقة المتوسطة، فما بالك بالفقيرة منها.

خلال حملته الانتخابية، أفرط ترامب في الوعود بإنهاء التضخم وخفض الأسعار، وهو يدرك أن المواطن الأميركي مهموم بعائد آخر الأسبوع، قبل أي أمر يتصل بالسياسات الخارجية للبلاد.

غير أنه ولاحقًا بدا مفرطًا أيضًا في تهديداته بفرض رسوم جمركية على أكبر ثلاثة شركاء تجاريّين لأميركا: الصين، كندا، المكسيك، الأمر الذي دعا خبراء الاقتصاد من جميع الأطياف الحزبية، من الديمقراطيين، وكذا من الجمهوريين، للقطع بأن من سيدفع ثمن هذه الرسوم الباهظة، هم المواطنون الأميركيّون.

في حواره مع ويلكر، بدا ترامب وكأنه يتنصّل مما وعد به، فقد قال: "لا أستطيع ضمان الغد"، بمعنى تراجع الأسعار وخفض معدّلات التضخّم، ما يستدعي علامة استفهام من الذين صوّتوا له حول مصداقيّته في بقيّة خريطته الانتخابيّة.

هل سيعيش الأميركيّون في كنف ترامب ولايةً تصالحيّة تسامحيّة، تمتدّ من 2024 حتى 2028، أم أنها ستكون رئاسة ثأر وانتقام، لا سيما من الذي يعتبرهم أعداءً له، من رجالات السياسة في الكونغرس، أو القضاة الذين أذلّوه في محاكمات بيروقراطية؟

أولى قرارات ترامب في الساعات الأولى، وليس المائة يوم الأولى ستكون العفو عن المدانين في أحداث الكابيتول في السادس من يناير 2021، وحجّته "أنهم تحمّلوا معاملة قاسية في السجن" و"أنهم يعيشون في الجحيم".

كيف سيتقبّل الديمقراطيّون هذا العفو؟ مؤكّد أنه سيمثّل بالنسبة لهم طعنة للعدالة، بالضبط كما يعتبر الجمهوريون اليوم أن عفو بايدن عن ابنه هانتر أمر يقضّ مضاجع العدالة عينها.

يصف ترامب أعضاء لجنة مجلس النواب التي حققت في هجوم الكونغرس الشهير بأنهم كانوا "بلطجيّة سياسيّين"، وأن ما فعلوه بصراحة يستوجب ذهابهم إلى السجن... هل سيفعلها؟

غالبًا لا، إذ اعتبر أنه لن يوجه وزارة العدالة ومكتب التحقيقات الفيدرالية لمعاقبتهم، فيما المراقبون يتساءلون: "هل يمكن أن ينكص على وعده ويجري محاكمات سياسية كمثل التي تعرَّضَ لها؟".

صدق ترامب في رده على سؤال ويلكر حول عدم مقدرة الديمقراطيين على سرقة انتخابات الرئاسة 2024 كما فعلوا في تقديره عام 2020، ذلك أنه برَّرَ الأمر بالانتصار الكبير الذي لم تكن تفلح معه أعمال التزوير، وهذا حقيقيٌّ بالفعل، فقد نجح الجمهوريّون في حشد كوادرهم وبصورة تقطع الطريق على أيّ تلاعب محتمل.

أيعني ذلك أن ترامب سيحاول بصورة أو بأخرى تهدئة حالة الانقسام الداخلي والتشظّي الحادث بين فئات الشعب الأميركي على الكثير من المرتكزات، العرقية والعَقَدية، المجتمعية والهويّاتية؟

على الرغم من أنه في حواره "قابل الصحافة" ألقى باللوم على الرئيس بايدن، وحمَّلَه أوزار حالة التشارع والتنازع في الشارع الأميركي، إلا أنه قطع بأن لا يعين مدعيًّا خاصًّا للتحقيق مع بايدن، مضيفا: "أنا لا أبحث عن العودة إلى الماضي.. الانتقام سيكون من خلال النجاح".

يبدو هذا المنظور مختلفًا، وربما يفتح بابًا للمحلّلين السياسيين الذين يعرفون توجّهاته للتساؤل عمّن يقف وراء ترامب الثاني، وهل مؤسسة "هيرتاج فاونديشن" أو "مؤسّسة التراث" التي تتبنّى مشروع 2025 هي التي تشكّل العقل الفاعل لهذه الإدارة، في طريق مؤدلج لمواجهة هجمات اليسار الديمقراطي المنحرف، بقياد المثلّث المشكوك في تصرّفاته "أوباما وهيلاري وبايدن".

وسط تصريحاته المتلفزة، اعتبر ترامب أن "رسالته هي الوحدة"، ومضيفًا أنّه سيعامل من لم ينتخبوه بنفس الطريقة التي يعامل بها مؤيّدي حركته "ماغا".

يدرك ترامب في هذه الولاية أن الرهان على الإعلام التقليدي ربّما لم يعُدْ مجديًا، ولهذا وفيما يدير شؤون العالم وشجونه عبر آليّات الرئاسة، يحتفظ لنفسه بمكانته في منصّة "تروث سوشيال" التي تبلغ قيمتها نحو مليار دولار والتي أطلقها بعد تَرْك منصب الرئاسة، وقد تعلم جيّدًا أن من يعطي الخبز يعطي الشريعة، كما أن من يوجه عقول الناس عبر كلمات قليلة، قادر على التحكّم في الرأي العامّ ودفّة الأحداث.

من بين القضايا التي تشكل "حجر عثرة" في الداخل الأميركي، تحتل مسألة الإجهاض مكانة متقدّمة، فعلى الرغم من أن ترامب لا يمكن وصفه بالمؤمن الممارس للحياة الدينية، إلا أنه، ومن قبلُ، أظهر مواقف متقدمة رافضة للإجهاض، وقد يكون هذا أحد أسباب فوزه الكاسح، ذلك أنه حصد قدرًا هائلاً من أصوات اليمين الإنجيليّ، وكذا من ملايين الكاثوليك في البلاد، أولئك الذين تنكّروا لبايدن الكاثوليكيّ اسمًا لا فعلاً والداعم لحرية الإجهاض.

غير أنه وفي المقابلة عينها قال ترامب، وفيما يشبه المزيد من التحلل من وعوده السابقة أنه لن يقيد توافر أدوية الإجهاض.

تراوح ترامب في مقابلته الشاملة والأهمّ منذ اختياره رئيسًا مرّةً جديدة، بين الصرامة والليونة، وربما أربك هذا حسابات كثير من الأميركيّين الذين لم يعودوا قادرين على تصنيفه في أيّ مربّع من مربّعات السياسة الأميركيّة الداخليّة التقليديّة، وإن لم يحتفظ بهدوئه كثيرًا، حين أشار إلى أنه عازم على إقالة "كريستوفر راي" مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية.

ماذا عن سياسات ترامب للعالم الخارجيّ؟

إلى قراءة مكمّلة بإذن الله.

يقرأون الآن