دنيا

هل أتاك نبأ سائق مطروح، ذلك الذى زعم أنه عثر على مبلغ ٨ ملايين جنيه فأعادها كاملة إلى صاحبها ورفض تمامًا أن يتقبل منه المكافأة التى عرضها عليه وكانت حوالى مليون جنيه؟! تحدث السائق كثيرًا عن الأمانة والتعفف، نال الرجل آلاف رسائل الإعجاب والتقدير لأمانته الشديدة وشهامته و.. و.. و...

صار السائق رمزًا وعنوانًا لبطل جديد يطل علينا، ثم تبين لرجال الأمن فى مطروح أن الواقعة بأكملها مختلقة، بعض الذين أشادوا به عبروا عن صدمتهم الشديدة، ولعنه بعضهم، خاصة بعد اعتراف السائق أنه أراد من اختلاق أو تأليف هذه الواقعة/الكذبة أن يصبح "ترند" وأن تصله بعض التبرعات، وقد وصلته بالفعل، حساب التبرعات هو ما استوقف رجال الأمن فى المحافظة الهادئة فراحوا يبحثون ويدققون فى الواقعة.

هذا السائق البائس نموذج لأبطال الفضاء الرقمى أو دنيا السوشيال ميديا، التى تقذفنا يوميًّا بعشرات النماذج، هل نذكر (عامل النظافة) بطل طبق الكشرى فى أحد المحال قريبًا من ميدان التحرير، الذى أزعج الجميع بلزوجته الإنسانية، ثم تبدد تمامًا، بعد أن صار عنوانًا للبطولة لأسابيع وراح يقتحم مختلف الأماكن والويل كل الويل لمن يتجرأ ويحاول اعتراضه. كان قد زعم أن مدير محل الكشرى منعه من الجلوس فى المطعم وتناول الطبق تأففًا من مهنته (عامل نظافة)، وتبين فيما بعد أن مزاعمه كاذبة.

فى دنيا السوشيال ميديا، يحق لكل إنسان أن يقدم نفسه كما يتخيل، بطلًا فى الأمانة والشهامة، مضطهدًا ويعانى ظلمًا بيّنًا أو تهديدًا ما، يمنح نفسه المنصب والموقع الذى يتخيله، مهندس أو أستاذ دكتور، سيادة المستشار مرة، مدير عام البنك (أى بنك)، سفير سابق، لواء أو عقيد بالمعاش، ويصدقون أنفسهم ثم يصدقهم الناس.

قبل حوالى شهرين كنت مدعوًّا لندوة فى نقابة الصحفيين، ثم تقدم رجل جهم، محاط بعدد من المريدين، فتيان صغار، يرتدى ملابس رسمية، زين صدره بعديد من الأعلام والأوشحة، لا علاقة بينها ولا معنى لأى منها معه، وقدم نفسه هكذا "...... نائب عام ميدان التحرير أثناء الثورة"، استفسرت منه عن ذلك المنصب، الذى لم نسمع به من قبل، تردد وتلعثم، قلت له إنه بذلك يضع نفسه فى دائرة انتحال صفة وعقوبتها قاسية ولا يصح أن يزعم لنفسه شيئًا مثل هذا داخل نقابة الصحفيين، لأن اكتشافه سهل، أحد المحيطين به ذكر لى أنه يردد هذه الأقاويل على صفحته بـ"فيس بوك".

وفى دنيا السوشيال لا مكان للعقلية النقدية ولا التدقيق فى القراءة ولا البحث بين السطور، فضلًا عن غلبة الانفعال وسيادة روح الانطباع وليس الاقتناع.

تأمل تفاصيل حكاية سائق مطروح، هل هناك من يضع هذا المبلغ فى جوال؟ هل يتحمل جوال واحد هذا الرقم؟ وهل يترك هكذا على قارعة الطريق وكيف عرف صاحبه على الفور وذهب إليه ولم يندهش الصاحب ولا أبلغ البوليس حين فقد المبلغ ولا انزعج من فقدان المبلغ ولا سعد برجوعه إليه ولا..

نفس الشىء فى حكاية بطل طبق الكشرى، الذى فرضت السوشيال على مالكى المحل فصل مدير المحل رغم أنه لم يرتكب أى خطأ، فقط التزم بقواعد العمل، ولما تبين كذب العامل لم يفكر أحد فى رد الاعتبار لذلك المدير الذى فقد وظيفته.

والحق أن العالم الرقمى وثقافته مخيفة، مئات الأكاذيب وظهور جحافل موجهة فى سياق ما، يراد لها السير فيه، والمشكلة أن عددًا من وسائل الإعلام، مفترض أنها رصينة وأن لديها معايير مهنية معينة للتأكد من مصداقية المعلومات والأخبار، تحاول مجاراة دنيا السوشيال، فتسقط أو تتغاضى عن الكثير من المعايير المهنية، مثل أنه لا يهم إن كان الخبر صحيحًا أم كاذبًا ولا إذا كانت المعلومة موثقة أو شائعة، يكفى أن السوشيال ترددها، فتصبح مؤثرة، لذا ازدادت الأخبار غير الصحيحة لدى صحف عالمية كبرى فى الأحداث الأخيرة.

فى سنوات الشباب الصحفى، كنا نعمل بقاعدة أن مصدرًا واحدًا قد لا يكون كافيًا لصحة الخبر أو المعلومة وأن الأفضل التأكد من أكثر من مصدر، إذ ربما يكون المصدر الأول مبالغًا أو يتعمد تسريب شىء ما لغرض فى نفسه، الآن يندر- نعم يندر- أن تقرأ خبرًا أو معلومة منسوبة إلى مصدر، وإذا سألت قيل لك "موجودة على جوجل"، صار السيد جوجل المصدر والمرجع.

أصبحت السوشيال عنصر ضغط اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، كثير من الأنماط الاستهلاكية يتم ترويجها عبر الفضاء الإلكترونى، كثير من الأزمات التموينية وغيرها تنشأ وتنشط فى ذلك الفضاء، حتى لو لم تكن موجودة فى الواقع، تشعر أحيانًا أن بعض التجار أو المحال الكبرى وراء الترويج لأزمة ما، كى يتضاعف السعر.

الأخطر هو محاولة التأثير على عمل بعض المؤسسات والأجهزة بما فيها القضاء، متهم فى جريمة قتل أو سرقة يتبنى الفضاء الإلكترونى أن الجريمة ملفقة أو أن المتهم برىء، لنتذكر قتل أب لطفليه صباح عيد الأضحى سنة 2019، وحملات التعاطف معه أنه برىء تمامًا، ثم حكاية محمد عادل ونيرة أشرف ثم....، فى حالة الشاب محمد عادل كانت الجريمة فى الشارع وعلى مرأى من الجميع، فضلًا عن أنه -غفر الله له- قدم اعترافًا كاملًا، ولما فشلت حملات التبرئة بدأ جمع مبلغ مالى ضخم يقدم دية لأسرة نيرة، أى أن الهدف النهائى إبعاد القضاء برمته عن القضية، قرر الفضاء الإلكترونى إغلاق القضية وإخراج الشاب من السجن والاكتفاء بالدية.

باختصار آخر، يحاول ذلك العالم الرقمى جعل بعض الأفراد فوق المحاسبة والمساءلة القانونية، حتى لو ضبط أحدهم متلبسًا بالجرم، عمليًا إسقاط مؤسسات العدالة بمنعها من ممارسة دورها، أليس هذا ما يسمى الانقلاب النظيف أو الناعم، انقلابًا على المؤسسات وعلى القانون.

فى وقت ما عانينا سياسيًا من آفة "مراكز القوى"، الرئيس جمال عبدالناصر هو من صاغ المصطلح وأمسك بهم وحاكمهم بعد يونيو سنة ١٩٦٧، وله فى ذلك كلمات قوية فى اجتماعات ومحاضر رسمية مع قيادات الدولة، ثم واصل بعده تلك الحملة، فى سياق مختلف، الرئيس السادات.

الآن يحاول الفضاء الإلكترونى خلق مراكز قوى اجتماعيًا ويحاول التحكم فى إعمال القانون ومؤسساته، بتبرئة مدانين واتهام وإدانة أبرياء، أفراد يتم استنكار توجيه أى اتهام لهم، وآخرون يتم إدانتهم دون حتى توجيه اتهام، سوف تقرأ كثيرًا عبارة "مفروض إعدام بدون محاكمة"، وحين نحلل مثل هذه العبارات يصيبنا الفزع، إذ تقف خلفها نفوس لا تقر بوجود قانون، فضلًا عن مؤسسات معنية به من نيابة عامة ومحاكم فضلًا عن مراكز الشرطة.

ورغم ان دنيا السوشيال تقوم على فرضية الحرية، فإنها تشهد أعلى درجة من انتهاك واقتحام خصوصية الأفراد ومحاولة التحكم فيها، هل نذكر السيدة الأجنبية التى وقفت فى شرفة منزلها بالقاهرة الجديدة، فترصدها أحدهم وقام بالتقاط عدة صور لها، ثم نشرها فى العالم الرقمى مطالبًا بترحيلها من مصر، بزعم أنها غير محتشمة، ولما اتسع نطاق الحملة جرى تحقيق فى الواقعة وأدانته النيابة العامة لأنه اقتحم بيت السيدة وحياتها بالتصوير.

على الجانب الثقافى أو الإبداعى يكفى أن ينشر شاب أو فتاة كلمات أو فقرات وربما شذرات أدبية، يسميها قصة أو رواية أو دراسة، هو من يطلق التسمية ويقرر، ليصبح مبدعًا يفوق نجيب محفوظ وناقدًا يبز العقاد أو باحثًا فى الإسلاميات يتراجع أمامه أحمد أمين وطه حسين، هكذا دون الحاجة إلى ناقد أو نشر عمل علمى وقارئ يتقبل، المهم هنا أن يكون لديه "فلورز". هنا لا يوجد كاتب وناقد أو أستاذ ومعلم وقارئ مهتم، تلك الثلاثية لم تعد قائمة، تغيرت حتى المسميات والمصطلحات.

قد يرى بعضنا أن السوشيال والفضاء الرقمى يحقق ديمقراطية المعرفة وحرية إبداء الرأى، وهذا جيد بالتأكيد، لكنه يسقط الكثير من معايير صدق الخبر والمعلومات، وفتح بئر الأكاذيب والادعاء، فضلًا عن كثير من الجرائم والموبقات والعمل على هدم مؤسسات المجتمع والدولة.

المصري اليوم

يقرأون الآن