مربط الكويت.. في الجسد العالمي

منذ عام 1961 ومع ادعاءات رئيس وزراء العراق عبدالكريم قاسم، تحولت الكويت في مدارها نحو الحضن الذي تتآلف معه وتطمئن لقيادته وتلمع في بيئته، فقد كان أول قرار للمرحوم الشيخ عبدالله السالم حاكم الكويت وحكيمها، إرسال برقيات إلى المنظمة العالمية وإلى مختلف دول العالم يشعرها بمحتوى التطاول العراقي على تاريخ الكويت وعلى حقائقها، متصوراً سهولة اختطافها، فجاء الرفض العالمي لهذه الأطماع بحجم ومتانة أراحا الكويت وشعبها وأميرها، ومنها تولد اليقين بالتأثير القوي للرأي العام العالمي في تحصين استقلال الكويت ودوام سيادتها وبقي مؤثراً ومتواصلاً حتى سقوط النظام العراقي في عام 1963.

تميز انضمام الكويت لعضوية الأمم المتحدة بموقف عالمي، صلب في رفضه لمزاعم قاسم، متين في معارضته لأطماعه، رحب في دعمه لعضوية الكويت للمنظمة العالمية، مواصل تصويته في مجلس الأمن، منتظر تبدلات مواقف الاتحاد السوفيتي المعارض لعضوية الكويت تثميناً لمصالح موسكو في عهد قاسم. جاء انفراد موسكو في معارضتها الكويت تقديراً لكسب المنافع من العراق. المهم لنا هو تأكيد قوة الموقف العالمي المناصر للكويت الذي تحقق مع التحاق الكويت بالمنظمة في 1963، والذي عمَّق الترابط الكويتي بشبكة العلاقات العالمية، ومن هذا الموقع تشابكت الكويت في علاقاتها العالمية متميزة بسيادة العقل والرزانة، متفهمة لدورها في الحوض العالمي، منفتحةً في عطائها التنموي، ملتزمةً واجبها السياسي بدعم صوت الحرية والاستقلال، مرحبةً بواجبها السياسي، مؤمنةً بدورها في الإسهام في تخفيف الضغوط عن الآخرين، مشاركةً في حل المنازعات، منسجمةً مع توقعات الآخرين منها، واعيةً لواجباتها في الشراكة، متمتعة بالمودة العالمية التي تحيط بها.

هذه وصفة لسلوك الكويت منذ الاستقلال تميزت بثلاثة مسارات:

الأول: الاعتماد على التضامن العربي في وحدة المواقف وتأكيد التوافق العربي.

الثاني: الابتعاد عن الدول الكبرى وعن مناطق النفوذ التي تسعى لها هذه الدول وتأكيد الحياد الإيجابي والابتعاد عن التحالفات العسكرية.

الأخير: المشاركة التنموية مع الدول النامية والإسهام في برامج تطورها.

وترجمة لهذه التوجهات، صعَّدت الكويت جهدها لتحقيق وحدة المواقف العربية، وتعميق التضامن العربي. وتحمَّل المرحوم الشيخ صباح الأحمد أثقال التوسطات العربية، بما فيها ملف فلسطين، طارحاً العدالة لشعب فلسطين في دولة مستقلة، وقد كنت حاضراً في لقاءاته مع زعماء الدول الكبرى، طالباً دعمها لإنصاف شعب فلسطين، كما كان يدفع نحو وحدة الموقف الخليجي ومشاركة دول الخليج في ملف القضايا العربية.

وبكل أمانة جسَّد الشيخ صباح الأحمد منذ استقلال الكويت حتى يوم الغزو أحلام الكويت في موقف عربي صلب وثابت، وكانت اهدافه تحقيق التضامن العربي ووحدة المواقف على أسس سليمة في صلابتها ونظيفة في أهدافها، وكنت معه يوم الغزو ورأيت أثقال الغزو التي حطمت الرسالة التي كان يؤمن بها في وحدة الصف العربي، وكشفت نوايا القيادة العراقية التي ناصرها مدافعاً عنها كرئيس للجنة العربية المدافعة عن العراق.

وهنا لا بد من التأكيد على الموقف العالمي الذي ناصر الكويت وتضامن معها والتزم هزيمة الغزاة وتحرير الكويت، وأظهر مساندة معبرة عن المكانة الرفيعة التي تشغلها الكويت في النظام العالمي، ولا سيما في مسارات القيم والعدالة والمشاركة في التنمية وفي ازاحة الخلافات نحو موقف موحد للاسرة العالمية. لا نستطيع ان نتعامل مع الدور المؤثر الذي التزمته الأسرة العالمية تجاه الكويت في الماضي البعيد وفي الأمس القريب، ونرتدي بدلة عنتر تجاه الموقف العالمي مستخدمين مفردات الاستخفاف والتطاول ونزعة الانفراد المتعالي، هذه النغمة ليست كويتية وليس لها مكان في العلاقات بين الدول. التزام الكويت قواعد العمل التي وضعتها الاسرة العالمية حققت للكويت احتراماً عاليا فائقاً، فما يأتي من الكويت سوى الخير والعمل المثمر، ففي الأمم المتحدة تعقد المنظمات المختلفة التابعة للأمم المتحدة مؤتمرات للتبرع تشارك فيها الدول القادرة بما فيها الدول التي تقدم تسهيلات لوجستية في التدريب وارسال خبراء لمساعدة بعض الدول النامية بما فيها الكويت الدولة المتبرعة التي كان لها برنامج تقدم فيه الأمم المتحدة الإسهام بالتنفيذ السليم لمواصفات المشاريع التي تريد الكويت تنفيذها.

كانت سرعة تحركات مجلس الأمن الدولي لمعارضة مؤامرة الغزو غير مسبوقة، ليس في السرعة فقط وانما في إصدار قرار يدين العراق ويطالب سحب قواته فوراً ويؤكد على سلامة وسيادة الكويت، ويعبر عن شراكة الاسرة العالمية مع الكويت والحرص على سلامتها. كما لا أنسى حيوية الاستقبال الذي تميزت به الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما جاء المرحوم الشيخ جابر الاحمد في سبتمبر 1990 يطرح في خطابه التاريخي دعوة الأسرة العالمية لتأكيد تحركها لتحرير الكويت، كنت حاضراً تلك المناسبة التاريخية التي طوقت فيه المنظمة العالمية أمير الكويت بتبني طلبه في تحرير بلده بمؤازرة سخية في حجمها وصادقة في مشاعرها وحاسمة في تحقيق أهدافها.

أكرر التأكيد على أن التظاهرة التي منحت لاستقبال الشيخ جابر جاءت من حقائق الكويت سلوكاً وسخاء ونزاهة، فسلوكها الخيري وجمال محتواها وصلاتها الحميمية مع المنظمة حققت لها هذا التميز.

وكنت أيضا من الذين تواجدوا عندما جاء المرحوم الشيخ جابر الأحمد أمير الكويت ليخطب أمام الوفود معبراً عن اعتزازه وشعبه بوفاء الأمم المتحدة للمبادئ التي يجسدها ميثاقها، كان المرحوم الشيخ جابر منتشياً بالألفة التي تولدت من علاقة الكويت بالمنظمة، كانت صورة الكويت في الأمم المتحدة دولة مفتونة بالميثاق، بريئة في مسارها، كريمة في عطائها، وفية لوعودها، نظيفة في مفرداتها، وصادقة في مواقفها. قضيت فيها شخصياً عشر سنوات، منها سنتان في مجلس الأمن، لم يتوقف فيها السلوك العفيف فما زال نظيفاً لامعاً.

دولة الكويت لا تملك الجيش الاحمر ولا تعرف المراوغات ولم تمارس الخبث وظلت بعيدة عن النفاق، لا تستهويها المناورات، وتظل وفية لقناعاتها لا تتبدل مواقفها وتبقى في مسار ثابت وتدرك قيادتها وشعبها أهمية المؤازرة العالمية لاستقلالها ودورها في صون السيادة وحماية الاستقلال والاصرار على الشراكة مع جميع الدول الاعضاء وتبقى دائما في صفوف المانحين.

هذه مواصفات الكويت في الأمم المتحدة وهذه القواعد التي تعتمدها الكويت في علاقاتها مع المنظمة العالمية التي تعتبرها الكويت شريكاً في صون سلامتها. فهذا المسار الذي تستهدي به الكويت لا يسمح لها ان تخرج عن الأدب الجم في سلوكها، فليست معتادة على مواجهة الاسرة العالمية بأسلوب التحرش والاستفزاز. حفظ الله الكويت بأدبها ورقتها وربطها الملتزم في الجسد العالمي.

القبس

يقرأون الآن