هل سيقدر للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب دخول سجل القياصرة الأميركيين، من بوابة الحرب الروسية الأوكرانية؟
شهدت الأيام القليلة المنصرمة، وقبل حفل التنصيب الرسمي، تصريحات عديدة ومتسارعة من سيد البيت الأبيض القادم، كان آخرها لشبكة "نيوز ماكس"، حول حتمية عقد لقاء سريع مع بوتين في أقرب وقت.
ترامب يقطع بأن بوتين بدوره يتطلّع لمثل هذا اللقاء، وهو أمر حقيقي، حيث تجاوز الأمر حدود التلميح إلى التصريح من جانب الكرملين، لجهة لقاء السحاب المنتظَر، ويبدو أن مكالمةً هاتفية ستجري بها المقادير في الأيام الأولى للرئيس في البيت الأبيض مع بوتين، والعهدة على الراوي مستشار الأمن القومي القادم، مايك والتز.
ليس سرًّا القول إن الكيمياء بين ترامب وبوتين جيدة بشكل كبير، ومساحات السر فيها أكثر من مربعات الجهر، سيما أن ترامب قد ظل على تواصل مع بوتين حتى بعد أن خلف مقام الرئاسة وراءه، ما يشي بأن مرحلة جديدة من العلاقات الأميركية-الروسية قادمة ولا شكّ في الطريق.
على أن التساؤل الأوّليّ والمحوريّ: "هل سيُقدّر لترامب بلورة صفقة ما بين موسكو وكييف تنهي هذه الحرب العبثية التي تدخل بعد أيام عامها الثالث؟"
أكثر من مرة صرح ترامب بأن ما يجري بين موسكو وكييف هو فوضى دموية، وأنه حان الوقت لوقف تلك الدراما غير الإنسانية، غير أن التساؤل المثير: "هل يملك ترامب بالفعل رؤية جامعة مانعة، شافية وافية، تُنهي ثلاثة أعوام من قتال غير مفهوم بين شعبين جذورهما تكاد تكون واحدة عطفًا على رؤاهم الثقافية والإيمانية؟"
انطلقت السياسات الأميركية في معناها ومبناها، من عند الميكيافلّيّة السياسية، تلك التي اعتنق فلسفتها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأميركية، والتي تتعاطى مع الواقع بأكثر من قربها من الأخلاق والمثل العليا، ولعله من هنا يمكن القطع بأن العقول المفكرة من حول ترامب، عسكريةً كانت أو مدنيّة، تدرك تمام الإدراك، أن هزيمة دولة نووية أمر غير وارد بأيّ حال من الأحوال، وأن سيناريو كرة الثلج يمكن أن يصيب واشنطن بضرر بالغ، لا تسعى إليه، سيّما أن الرجل مهموم بل محموم بجعل أميركا عظيمة مرة أخرى، والعظمة عنده تبدأ من الداخل لا الخارج.
يدرك مستشارو ترامب من كبار الجنرالات الموالين، أن روسيا تتقدم ولو ببطء على الجبهات الأوكرانية المختلفة، الأمر الذي يهدّد أي عملية سلام يسعى في طريقها مع بداية ولايته الثانية، وهنا يطفو التساؤل: "لماذا يوافق بوتين على اتفاق سلام إذا كان يعتقد أنه قادر على الفوز بالحرب؟"
على أن الشيطان وكما يقال يكمن في التفاصيل، وفي مقدمها الحديث عن مقدرة ترامب على إقناع بوتين بالانسحاب من الاراضي الأوكرانية التي احتلّها، وبالقدر نفسه إفهام زيلنسكي أن البقاء في جيوب على الأراضي الروسية أمر لا بد له وأن ينتهي بشكل أو بآخر.
هنا ومن غير أدنى شكّ، سيكون خطّ المواجهة هو الحدود التي يفرضها الأمر الواقع، فقد يتبادل الجانبان بعض الأراضي، وستكون هناك منطقة منزوعة السلاح على جانبي خطّ الترسيم الذي سيتّفق عليه.
في مقدم الملفات التي تبدو عسيرة وعقبة كؤود في مواجهة ترامب حال سعيه لعقد صفقة سلام بين روسيا وأوكرانيا، يأتي ملف شبه جزيرة القرم، والتي أعلنت روسيا عودتها إلى الدولة الأم عام 2014.
في هذا السياق يرى العديد من المراقبين لمشهد الصراع الروسي الأوكراني، أن أي اتفاق سلام عادل ودائم لإنهاء الصراع في أوكرانيا لا بد وأن يأخذ في الاعتبار إخلاء شبه جزيرة القرم من الاحتلال الروسي من أجل تحقيق السلام والأمن الاقليميين، ذلك أن شبه جزيرة القرم تحت سيطرة بوتين، من المرجّح أن تحول البحر الاسود إلى بحيرة روسية.. هل يعزّز هذا الأمر من المخاوف الأوروبية؟
المؤكّد جيوسياسيًّا هو أن بقاء شبه جزيرة القرم تحت السيطرة الروسية يخلق فاصلاً بين منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، عن أوروبا، ما يشكل تهديدًا بشكل مباشر لرومانيا وبلغاريا، العضوين في حلف شمال الأطلسي، ويمنع فعليًّا الاتصال بين بحر البلطيق والبحر الأسود.
يعنّ للقارئ أن يتساءل: "هل يمكن لترامب إقناع بوتين بالتخلي طواعية عن شبه جزيرة القرم؟"
الجواب المؤكد هو أن الأمر على هذا النحو هو من رابع المستحيلات، سيما بالنسبة لبوتين، سيد الكرملين والذي لا يزال يؤمن بأن أكبر خطأ بل خطيئة إستراتيجية جرت بها المقادير في القرن العشرين هي تفكيك الاتحاد السوفيتي، ولو امتلك القيصر العصا السحريّة، لأعاد تجميع ما تم تفكيكه، وربما يعمل في هذا السياق ولكن بطرق عصرانية، وعليه تبقى فكرة إعادة شبه جزيرة القرم فكرة هلاميّة دونها بالنسبة لبوتين "خرط القتاد" كما يقال، حيث تبدو العقيدة القتالية الروسية التقليدية والنووية حاضرة وبقوة للدفاع عن تلك المنطقة التي تمثل المنفذ الوحيد لروسيا إلى بحار ومحيطات العالم من خلال ميناء سيفستابول الشهير.
يتساءل المرء: "هل يمكن لمبادرات ترامب لإنهاء الأزمة الروسية–الأوكرانية أن تجد هوى عند دول الإتحاد الأوروبي عامة، ولا سيما الجانب الشرقي منها، حيث البعض يكاد يتجهز لمواجهة ساحقة ماحقة مع الروس، كما الحال في بولندا بنوع خاص؟"
باختصار القول، لا تواري أوربا أو تداري قلقها الجسيم من إدارة ترامب، والتي ستختلف بشكل رئيس عن توجهات إدارة بايدن، ذلك أنه من المرجّح أن يواجه الحلفاء الأوروبيون الذين ساروا في ركاب بايدن لأربع سنوات، تدفقت فيها مليارات الدولارات على زيلنسكي وصحبه، تساؤلات صعبة حول مستقبل دعم أوكرانيا حال تأكيد ترامب رغبته في إبرام صفقة توقف هذه الحرب.
مخاوف الأوربيين ظاهرة للعيان، ذلك أنهم يخشون قيام القيصر بالمزيد من العمليات العسكرية في دول أوروبا الشرقية المجاورة، وبما يتجاوز مقدرات الدفاع الأوروبية، حال تلكّأَ الناتو في الدفاع عنها بتاثيرات ترامب الذي لا يحمل مشاعر طيبة بشكل أو بآخر للحلف العتيق.
يخشى الأوروبيون من جانب آخر أن مواجهة تعقيدات إضافية تتمثل في مطالبات أميركية مالية ترهق دول الناتو في الجانب الأوروبي، وهو ما حدث بالفعل، فبعد أن كان ترامب يطالب ب 2% فقط من الناتج القومي الإجمالي للدول الأوروبية الشريكة في الناتو، ها هو يعود ويطالب ب 5% ما يجعل الأوروبيين بين مطرقة بوتين العسكرية وسندان ترامب الاقتصادي.
هل من مصلحة أميركية عليا يرى ترامب أن صفقة إنهاء الحرب مع أوكرانيا ستحققها؟
تبقى الصين في كل الأحوال هي حجر العثرة بالنسبة للعقول الفاعلة التي ترسم خريطة إدارة ترامب وسياساته القادمة، وفي مقدمها، مؤسسة "التراث" ذات العمق الكبير والدالة المعمقة على التغيرات الجيوسياسية حول العالم.
ولعل الجواب الشافي الوافي، يتمحور في كلمة واحدة هي الصين، وحتمية فك الشراكة التي نشأت بينها وبين روسيا على ضفاف الصراع المسلح بين الأوكرانيين والروس.
لا يبدو الطريق ممهَّدًا لصفقة تنهي الأزمة الأوكرانية، لكن غالب الظن أن توافقًا أميركيًّا روسيًّا ما، كفيلٌ بوضع نهاية قريبة للصراع مهما كانت العقبات أو التعقيدات.