هل تشعل الجغرافيا شرارةَ الخلافات الجديدة؟

منذ تولّيه الرئاسة قبل نحو أسبوعين، أصدر دونالد ترامب عشرات الأوامر التنفيذية وأدلى بالعديد من التصريحات حول طريقته في "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى".

ومن بين القضايا التي أثارت اهتماماً عبر العالم تلك المتعلقة بآرائه حول دور أميركا في العالم. فقد اقترح أن تحتل الولايات المتحدة قناة بنما مرة أخرى وأن يتم بيع غرينلاند إلى الولايات المتحدة. تصريحات قوبلت بمزيج من الغضب وعدم التصديق من قبل حكومتي البلدين، لكن مع إشارة إلى أنهم يدركون أن ثمة محاولة لترهيبهم حتى يقدّموا تنازلات بشأن حقوق الوصول والاتفاقيات التجارية. ولا أحد يتوقع أن ترامب يعتقد حقاً بأن الولايات المتحدة قد تفكر يوماً ما في استخدام القوة ضد أحد جيرانها إلا في أحلك الظروف.

إبان الحرب العالمية الثانية، وبعد أن احتلت ألمانيا الدنمارك، وقّع مبعوث هذه الأخيرة إلى مستعمرتها غرينلاند أمراً تنفيذياً يسمح للولايات المتحدة بإرسال قواتها إلى هناك، لتصبح الجزيرةُ الاستراتيجية محميةً أميركية بحكم الأمر الواقع طيلة ما تبقى من زمن الحرب. والواقع أنه ما زالت لدى الولايات المتحدة قاعدة عسكرية مهمة هناك. وعلى مدى العقد الماضي، فتحت آثار الاحتباس الحراري وذوبان جليد القطب الشمالي البابَ أمام مزيد من حركة المرور البحرية، وأصبح من السهل استخراج الاحتياطيات المعدنية الضخمة التي تزخر بها المنطقة. ويشار هنا إلى أنه بات لدى كل من روسيا والصين الآن وجودٌ متزايد في منطقة القطب الشمالي.

والواقع أنه لو اكتفى ترامب بالتركيز على الأهمية الاستراتيجية لكل من قناة بنما وجزيرة غرينلاند بالنسبة للتحالف الغربي ولمواجهته كلا من روسيا والصين، لكان ذلك مقبولاً. ولا بد أن موسكو وبكين هما الأكثر سعادة بتصريحات ترامب في الظروف الحالية.

أما العاصفة الجيوسياسية الأخرى التي أثارها ترامب، فتتعلق بتصريحاته بشأن الوضع في قطاع غزة. فقد اقترح أن يتم نقل مليوني فلسطيني يعيشون في غزة، مؤقتاً، إلى الأردن ومصر ريثما يتم إعادة إعمار البلاد. والحال أن سكان الأردن يضمون أصلا أكثر من 50 في المئة من الفلسطينيين نظراً لأن الأردن استوعب اللاجئين الفلسطينيين بعد حروب 1948 و1967 و1973. ولا شك في أن إضافة المزيد إلى أولئك اللاجئين من شأنه أن يهدِّد استقرار البلاد التي تربطها علاقات وثيقة جداً بالولايات المتحدة وتقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

أما في حالة مصر، فيمكن أن يخلق مزيد من اللاجئين تحديات أمنية واقتصادية خطيرة ستقاومها القاهرة بشدة. غير أن الأهم من ذلك كله هو رد فعل فلسطينيي غزة أنفسهم الذين يعتبرون مثل هذه الخطوة تهديداً وجودياً لهم كشعب. أما المجموعة الوحيدة التي تحمست لفكرة ترامب وأيدتها، فهي الإسرائيليون اليمينيون المتشددون الذين يريدون إعادة إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في غزة. كما يعتقد هؤلاء أن من شأن مثل هذه الخطوة الدراماتيكية أن تجعل إقامة دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً.

والسؤال الجغرافي الآخر الذي ما زال يتعين على ترامب أن يجيب عنه هو ذاك المتعلق بمستقبل أوكرانيا، إذ يتعين عليه أن يوضح الكيفية التي ينوي أن ينهي بها الحرب. فحتى الآن، أظهر ترامب دعماً لأوكرانيا، غير أنه إذا نفد صبره وحاول التوصل إلى اتفاق منفصل يميل لصالح روسيا من دون التشاور مع أوكرانيا والحلفاء في "الناتو"، وبدون موافقتهم، فإنه سيصوَّر على أنه سيعيد ما فعله نيفيل تشامبرلين، رئيس الوزراء البريطاني الذي أعلن التوصل إلى اتفاق مع أدولف هتلر في ميونيخ عام 1938 حول مستقبل تشيكوسلوفاكيا، قائلاً، إنه بذلك يكون قد اشترى "السلام بشرف". بيد أن استرضاء ألمانيا الهتلرية في ميونيخ كان أحد الأسباب التي جعلتها تشعر بالحرية للإقدام على غزو بولندا بعد عام على الاتفاق، مما أطلق شرارة الحرب العالمية الثانية.

الاتحاد

يقرأون الآن