جاءت ذكرى مرور ثلاث سنوات على الحرب الأوكرانية، فى ٢٤ فبراير الأسبوع الماضى، فى ظل ضجة كبيرة أحدثها الرئيس الأمريكى ترامب فى هذا الصدد، شملت عقد مفاوضات أمريكية روسية فى العاصمة السعودية الرياض، وعندما أعربت كييف عن رفضها وكذا دول الاتحاد الأوروبى عن تحفظاتها عن مناقشة تسوية فى هذه الحرب بدونها، ثار ترامب واتهم الرئيس الأوكرانى زيلينسكى بالديكتاتورية وأنه غير منتخب، كما تحدث بصراحة شديدة عن طلبه الحصول على معادن أوكرانية بقيمة ٥٠٠ مليار دولار مقابل ما تحملته واشنطن فى هذه الحرب، ثم تحول المشهد إلى مهزلة سياسية وغضب أوكرانى وأوروبى مفهوم فى أعقاب اللقاء الغريب الذى تم بين الرئيسين ترامب وزيلينسكى، وفى الواقع أن المشهد حافل بالدلالات التى من المفيد لنا عربيًّا ومصريًّا تأملها.
أولى هذه الدلالات أن مجمل سياسات ترامب فى أكثر من موضوع سيسبب الكثير من التباعد مع أوروبا، وربما يحدث هذا مع حلفاء غربيين آخرين، إذا تذكرنا موضوع الجمارك والتبادل التجارى، والضجة التى يعاودها ترامب حول تمويل أوروبا والدفاع عنها، وضرورة تحمل هذه الدول لمسؤولياتها بهذا الصدد، والمشكلة كما هو واضح أن نهج ترامب واندفاعه يشوشان على المسائل التى يمكن تفهمها بتلك التى يفتقر فيها لأى منطق، فمن الموضوعية تفهم موقفه حول ضرورة تحمل أوروبا الكثير من نفقات الدفاع عنها، ولكن مسألة التعريفات الجمركية يطرحها وكأن أوروبا تستغل بلاده، وهذا غير صحيح، أما المسألة الأوكرانية فهى النموذج الأكثر تعبيرًا عن خلل هذه العلاقات، فعبر أغلب فترات الحرب كانت الإدارة الأمريكية لبايدن هى التى تقود المشهد وتدفع دول أوروبا إلى التشدد والسير خلف واشنطن، والآن تركتها الأخيرة فى موقف لا تُحسد عليه، صحيح أن الاتحاد الأوروبى اتخذ قرارات بدعم أوكرانيا بمبلغ ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار ردًّا على الموقف الأمريكى، كما نجحت أوروبا فى استصدار قرار من الجمعية العامة ضد إرادة واشنطن بشأن انسحاب روسيا من الأراضى الأوكرانية، ولكن من الصعب تصور أن هذا القرار الأممى أو هذا الدعم المالى سيكون كافيًا لإجبار واشنطن على العودة إلى مواجهة روسيا بهذا الصدد، ولكن يظل الدرس الأساس هو أن أوروبا الغربية عليها أن تجد طريقًا آخر للدفاع عن مصالحها.
الأمر الثانى أنه فى كل مرة تحدث حرب كبرى وتشهد خسائر بشرية كبيرة ويتعرض الاقتصاد العالمى لهزات كبيرة، ثم تنتهى هذه الحروب، لا يتذكر إلا القليلون من العقلاء أنه كان يمكن تجنب هذا بحلول وسط أو خلاقة وتجنب كل هذه الخسائر، ولكن المؤسف أن البشرية تعرف أيضًا أن التحولات الكبرى عبر التاريخ كانت تتم بهذه الحروب الكبرى، التى تبدو كفعل الثورات فى المجتمعات المختلفة، فى وقت يمكن فيه إجراء التحولات بشكل متدرج وعاقل وبالحد الأدنى من الخسائر.
الأمر الثالث أن التحليلات تركز على احتمالين فى دوافع موقف الإدارة الجديدة من روسيا، البعض يختصرها فى إعجاب وتفهم ترامب لدوافع موسكو، والبعض الآخر يميل إلى استدعاء التاريخ والمقارنة بين ما فعله كيسنجر لإبعاد بكين عن موسكو فى سبعينيات القرن الماضى، وكأنها، أى واشنطن، تهدف إلى التركيز على الصين، بل تطوير علاقاتها مع موسكو ضد بكين، وفى الأغلب هذا هو الأرجح، وفى الواقع رغم جاذبية وإغراء ما قد يكون من هذا التحالف للكثيرين من النخبة والشعب الروسى، فإن تقلبات السياسة الأمريكية لابد أن تترك آثارها السلبية، وتعزز مخاوف بوتين، ولعلى أتذكر أنه عبّر بالفعل فى مواقف متعددة عن انتقاداته لهذه السياسة وعدم ثباتها، وبالتالى قد يُضعف هذا كثيرًا من مراهنات ترامب، وستخطئ موسكو بالفعل لو توهمت أنه يمكنها التضحية بالعلاقة مع الصين- رغم وجود الكثير من المشكلات العالقة بين البلدين- وذلك فى ضوء أن دعم بكين المستتر كان جوهريًّا لصمود موسكو إزاء العقوبات الأمريكية والغربية.
أما الأمر الرابع فهو مستقبل تسوية الصراع ذاته، فهناك تساؤل مشروع الآن- أيًّا كان تقييم سلوك أوكرانيا ورئيسها- هو كيف يمكن من حيث المبدأ ومن حيث المبادئ القانونية أن يتم نقاش مستقبل أوكرانيا فى غيابها؟!، هنا تواصل السياسة الأمريكية ارتكاب أخطائها وجرائمها التاريخية فى حق الشعوب المختلفة، بما فى ذلك الأوروبية، وإعلان رسالة واحدة أن القوة وحدها هى معيار التعامل، وهى رسالة بالغة السلبية حول المعايير الأخلاقية الأمريكية.
وأخيرًا، يظل الدرس الأكبر من هذه الحرب، سواء انتهت قريبًا أو لا يزال أمامنا بعض الوقت، وهو أن موقف شبه الحياد الذى اتخذته عدد من دول الجنوب، ومنها مصر وأغلب الدول العربية، قد ثبت صوابه، بل إنه الأكثر أخلاقية، فى نزاع ملتبس، فالحقيقة أن هناك غزوًا روسيًّا لأراضى دولة مستقلة، وهذا مخالف للقانون ويجب إدانته، والحقيقة أيضًا أن هناك معايير غربية مزدوجة، وتفاهمات غربية مع روسيا بشأن أوكرانيا لم يتم احترامها من جانب الغرب، ولهذا كتبت فى بدايات الحرب هنا مقالًا بعنوان «حياد ليس بحاجة إلى تبرير»، وكان موقف مصر وأغلب العرب المتوازن- رغم الضغوط الأمريكية والغربية للمشاركة فى العقوبات ضد روسيا- موقفًا سليمًا تأكد يوم أن اختيرت الرياض لاستضافة الاجتماعات بين موسكو وواشنطن، وفى جميع الأحوال يبقى هذا الدرس الأساسى، الذى قد تتعلمه أوروبا اليوم، أن السير خلف واشنطن أو أى قوى كبرى ليس فى صالح أحد إلا واشنطن وهذه القوى الكبرى.