في مقال أخير له وصف "سيمون تيسدال"، معلِّق الشؤون الخارجية في صحيفة الأوبزرفر البريطانية المشهد السياسي العالمي بأنّه بات ينحو نحو الفوضى بشكل كبير، ووَجَّه أصابع الاتّهام في حقيقة الأمر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، معتبرًا إيّاه السبب الرئيس في كل ما يجري حول العالم.
المقال المشار إليه، يكاد يُحَمِّل الرئيس الأميركي أخطاء وخطايا العالم، باعتبار أن سياسات ترامب تشقّ الصفّ العالميّ، والدليل العلاقات ما بين جانبي الأطلسي، وما يتهَدَّد الناتو في المدى المنظور من شقاق وفراق.
حديث تيسدال المشار إليه، ربما عزّزته الخلافات من حول خطاب الرئيس ترامب الاستثنائيّ الأخير الذي وجهه إلى الكونغرس مجلسيه، وهو ليس خطاب حالة للاتّحاد، إذ المعروف أن الرئيس الأميركي لا يُوَجِّه مثل هذا الخطاب في عامه الأول.
بدا واضحًا أن هناك حالة غير مسبوقة من التذمر بين الديمقراطيّين لم يداروها أو يواروها، ووصل الأمر حدَّ طرد النائب الديمقراطي "آل جرين"، من جلسة الخطاب العاصف، كما رُفعت اللافتات الرافضة لسياسات ترامب وكلماته.
من جانب آخر، بدا الجمهوريّون وكأنهم على قلب رجل واحد، وغالب الظن أن هذا مظهر يعكس مخبرًا مختلفًا، فهناك الكثيرون منهم على خلاف عميق معه، لكن غالب الظن يخشون من توجُّهاته المثيرة ومواقفه الحادّة والخطيرة.
يعنُّ لنا التساؤل مع الفيلسوف الإيطالي الأشهر نيكولا ميكافيللي: "أيهما أفضل بالنسبة للرئيس ترامب أن يكون محبوبًا أم مرهوبًا؟".
تبدو قيادة إمبراطورية عالمية مترامية الأطراف أمرًا بعيدًا كلَّ البُعد عن العواطف، فالدول العظمى تقاس بالحسابات والمصالح الاستراتيجية، ومعايير الربح والخسارة، ضمن خطوط طول عرض تبحث عن الهيمنة والزعامة، وهذا حقٌّ لها، حق تفرضه طبائع الأمور وحقائق الأشياء، سواء اتَّفق معه الجميعُ أو اختلفوا.
رفع دونالد ترامب شعارًا واضحًا "أميركا أوَّلاً" و"أميركا عظيمة ثانية"، وما من أحد كان يمكنه أن يمنح أو يمنع الدعم له ولشعاره، سوى المواطن الأميركي، وهذا فعله قولاً وفعلاً عبر التصويت له بشكل غير مسبوق من سنوات طوال.
هنا يبدو واضحًا أن الرجل يسعى بالفعل إلى تحقيق ما وعد به مواطنيه، وبغضِّ النظر عن الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة الرافضة للكثير من توجهاته، وفي مقدمها التعريفات الجمركية التي يحاول من خلالها حماية الصناعات المحلية، فيما يرى البعض الآخر أنها سترهق المواطن الأميركي على الأمد البعيد، وستؤثر على الاقتصاد الأميركي بصورة سيئة.
هناك الأزمة مع الشاطئ الآخر من الأطلسي، حيث الدول الأوروبية التي تمتعت طويلاً جدًّا بالحماية العسكرية الأميركية لا سيما طوال قرابة أربعة عقود من الحرب الباردة.
هذه الدول لا تريد أن ترفع حصتها ومساهمتها في موازنة حلف الناتو، وهو الأمر الذي لا يمكن لرجل "فن الصفقة" أن يقبله، ومن هنا تبدأ ملامح الشقاق والفراق، والتي يمكن أن تتعمق حالَ قرّرتْ واشنطن على سبيل المثال سَحْب قواتها العسكرية التقليدية من دولة أوروبية كبرى مثل المانيا، حيث ينتشر عديد قواتها البالغ 35 ألف جندي على أراضيها.
أمّا الاختبار الأكثر خطورةً، فيتمثّل في إمكانية إقدام ترامب على التراجع عن حماية أوروبا عبر المظلة النووية التقليدية، ما لم يدفع الأوروبيون الأكلاف اللازمة لهذه المظلة، وها هم يبحثون فيما بينهم عن البديل الأوروبي الداخلي، بشراكة فرنسية–بريطانية، غير أن هذا لن يكفّ في واقع الأمر.
هل هذه السطور دفاع عن الرئيس ترامب؟
بالمطلق لا يمكن أن يكون ذلك كذلك، إنما محاولة بسط الخلاف والصراع الأميركي الداخلي على ساحة النقاش، وهو جدلٌ قائم منذ زمان وزمانين في الروح الأميركية، ما بين الواقعية والمثالية، بين الجاكسونيين والويلسونيين، وغالب الظن أنه سيبقى طويلاً، ما بقيت أميركا حاضرة في المشهد السياسي العالمي.
تقول المدرسة الواقعية إن الولايات المتحدة دولة مثل أية دولة أخرى، وبذلك يجب عليها حماية مصالحها القومية. وتشكل هذه المصالح أمن الولايات المتحدة والسعي لتحقيق منفعتها الاقتصادية، ودعم الأنظمة المفيدة لتلك الغايات، بغَضِّ النظر عن الطابع الأخلاقي لتلك الأنظمة. وبناء على هذه النظرية، لا ينبغي أن تكون السياسة الخارجية الأميركية أخلاقية، على نحو أقل أو أكثر من سياسة أية دولة أخرى.
على الشطّ الآخر، يحاجج المثاليون بأن إنكار الضرورة الأخلاقية على نحو فريد لأميركا لا يُنكر المثل الأميركية فحسب، بل رؤية التاريخ الأميركي بالكامل.
الواقعيون يدافعون عن رؤى مثل رؤية الرئيس ترامب ذات الأبعاد المختلفة، وعندهم أن أميركا تعيش وسط عالم خطير، وأنه إذا ركّزت على الأهداف الأخلاقية فحسب، فسوف تصرف الانتباه عن السعي لتحقيق مصالحها الحقيقية، وبالتالي تعرض وجود الجمهورية- الذي هو تجسيد للمُثل الأميركية- للخطر.
يبدو المشهد الأميركي المعاصر مأزومًا بالفعل في داخله، والأزمة لم تنشأ مع الرئيس ترامب، ويبدو من الخطأ تحميل الرجل بكافة أعباء المشهد دفعة واحدة.
هنا ربَّما من الأهمية بمكان أن ندرك أنّ المثالية باعتبارها أساسًا للسياسة الأميركية تتجاوز الإيديولوجيات، حيث يقوم الشكل اليساري على حقوق الإنسان ومَنْع الحرب.
أما النسخة اليمينية، فتقوم على الرغبة المحافظة الجديدة في نشر القيم والديمقراطيات الأميركية. وما تشترك فيه هاتان الرؤيتان هو فكرة أن السياسة الخارجية الأميركية ينبغي أن تكون مركزة في المقام الأول على المبادئ الأخلاقية.
بعد قرابة خمسين يومًا لترامب في البيت الأبيض، تظهر استطلاعات الرأي كيف أنه لا يزال يحتفظ بحضور ودعم جماهيري كبيرين.
النتائج المتقدمة لم تنشأ من الفراغ، بل هناك مدركات وإنجازات جرت بها المقادير على الأرض بالفعل، فعلى سبيل المثال نجح ترامب في إغلاق الحدود والتخفيف من أزمة الهجرة غير الشرعية، تلك التي يمكنها قلب ميزان التوازنات الديموغرافية في غير صالح الرجل الأبيض خلال العقود القليلة المقبلة.
نجح ترامب في جلب العديد من الاستثمارات إلى الداخل الأميركيّ، وإعادة دوران المصانع، والتركيز على المنتج الأميركي.
نجح في إعادة مواطنين أميركيين مخطوفين ورهائن في الخارج، ما أعاد الثقة للشارع الأميركي في إدارته، عطفًا على القبض على إرهابيين عالميين عاثوا فسادًا في أفغانستان.
أما المستقبل القريب، فينتظر الجميع فيه لقاء السحاب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي غالبًا ما ستستضيفه المملكة العربية السعودية عمَّا قريب، ما يثبت للعالم أن الرجل يسعى بالفعل إلى إخماد شرارة الحرب العالمية الثالثة، والتي كانت الحرب الروسية الأوكرانية كفيلة بأن تشعلها.
هكذا يرى الأميركيون في الداخل ترامب، وقبل حلول المائة يوم الأولى من حكمه.
من هذا المنطلق يمكن القطع بأن الجدل بين الواقعية والمثالية يخطئ بشكل أساسي في عرض المشكلة الأميركية، وسوف يكون لهذا العرض الخاطئ دور مهمّ في العقود المقبلة، فهو إما أن يُحلّ أو يصبح الاختلال في السياسة الخارجية الأميركية أكثر وضوحًا.
هل من المبكر الحكم على ترامب وهل هو رجل الواقعية الأميركية أم المثالية؟
دعونا ننتظر قليلاً ونرَ.