هذه الظاهرة قديمة، ولكنها لا تزال مستمرة. تستخدمها الأنظمة والتنظيمات المتطرفة والميليشيات الطائفية. هدفها تحشيد ورفع درجة غليان المجتمعات العربية لأغراض متعددة وبمساعدة من منصات ووسائل إعلام مؤدلجة، تقوم بعمليات التعبئة والتحريض بشكل مستمر.
أهداف هذه الظاهرة، أي ظاهرة تسخين المجتمعات العربية، متعددة. أول هذه الأهداف هو اكتساب الشرعية. تستخدم هذه الجهات آلية تسخين المجتمع وتتبنى خطاباً حربياً موجهاً للأعداء والمتآمرين في الغرب، خصوصاً من أجل اكتساب شرعية داخلية للحكم. وهذه طريقة يسيرة ولا تحتاج إلا إلى رفع الشعارات والقبضات الغاضبة، وتحدي العالم الخارجي، وإفشال المؤامرات.
الهدف الثاني هو الهروب من الداخل إلى الخارج وحرف الأنظار عن الفشل الاقتصادي والمعيشي والتعليمي، وربط اهتمام الناس بقضايا خارجية مرتبطة بالعاطفة الدينية والقومية. بناء اقتصاد ناجح وتطوير البنية التحتية وتشييد مؤسسات دولة فاعلة ومؤسسة تعليمية حديثة، أعمال ليست بالسهلة وتحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والعمل. مروِّجو ظاهرة تسخين المجتمعات العربية يفشلون في كل هذا ويبحثون عن الحل الآخر، وهو البحث عن عدو خارجي وإعلان الحرب عليه ومنع الناس من الحديث عن الحرب الداخلية الأهم على الفساد والفقر والجهل، ومن هنا نفهم جيداً مقولة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
الهدف الثالث لظاهرة التسخين هو التحشيد ونشر خطاب الكراهية والسخط والتعبئة داخل المجتمعات العربية. تقوم بهذا بشكل مستمر جماعات الإسلام السياسي السنية والشيعية، وتستخدم في العادة القضية الفلسطينية ذريعةً وأداةً لهذا السبب. والهدف ليس الانتصار للقضية الفلسطينية، ولكن من أجل تقويض شرعية الدول المعتدلة في المنطقة لأنها على عداء معها وتسعى لإسقاطها رغم كل الجهود الكبيرة التي قدمتها هذه الدول للقضية الفلسطينية. وما حدث في غزة مثلاً تحوَّل بوقت سريع من الهجوم على إسرائيل إلى التحريض على الدول الخليجية ومصر والأردن، وكأنها هي التي تقوم بقتل سكان غزة!
يعرف قادة تيارات الإسلام السياسي هذه الحقيقة، ولكنهم يسعون لاستغلال هذا الحدث من أجل تسخين المجتمعات العربية وإضعاف الدول المعتدلة وتساعدهم في ذلك وسائل إعلام مخصصة لهذا الغرض. وهذا ما يحدث الآن في سوريا؛ حيث تهدف جهات لتسخين المجتمع السوري من أجل دفع الحكومة في دمشق إلى مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل وإفشال عملها في بناء بلد متعافٍ اقتصادياً وسياسياً وتركه بلداً مدمراً بفعل الحروب والصراعات المجانية. ومن الغريب أن بعض الحكومات تساعد من دون وعي في ظاهرة التسخين ضدها، وتقدم للجماعات المعادية لها المساعدات لتأجيج شعوبها ضدها.
كثير من قادة ظاهرة تسخين المجتمعات العربية انتهوا نهايات مأساوية. قام عبد الناصر بتسخين المجتمعات العربية كلها وانتهى إلى هزيمة 67 ومات بعدها بـ3 سنوات. صدام حسين سخّن العرب وانتهى في حفرة. بشار الأسد استخدم كل مصطلحات التسخين وهرب بالأموال إلى موسكو. حسن نصر الله سخّن جمهوره ولم يُدفَن إلا بعد 5 أشهر من مقتله. أسامة بن لادن أُلقيت جثته في البحر ودمر تنظيمه بعد جولات طويلة من التسخين والتحريض. الأمثلة كثيرة، ولكنهم تركوا خلفهم آثاراً سيئة، بلداناً مدمرة واقتصادات منهارة وشعوباً تائهة وأفواهاً جائعة وسيلاً من دماء الأبرياء.
السؤال الآن: لماذا تعود ظاهرة التسخين رغم إخفاقها مرة بعد أخرى؟ لماذا ينجح هؤلاء في استخدامها رغم فشلها سياسياً واقتصادياً؟ الجواب لأن التيارات الإسلاموية والقومية المتطرفة سيطرت على وعي الشعوب العربية لفترة طويلة وشحنتهم بثقافة لديها قابلة للاستجابة لمثل هذه الأفكار العاطفية. تم استغلال كل القضايا النبيلة لأهداف غير نبيلة. قضايا تتعلق بالدين والوطنية والأرض، كلها تحولت إلى أدوات لتعبئة المجتمعات وجعلها تعمل ضد نفسها وضد مستقبلها.
الحل هو في استخدام أسلوب آخر، وهو ظاهرة تبريد المجتمعات العربية، وذلك بالتركيز على قضايا ضرورية تساعدهم في حياتهم: الاقتصاد، والتعليم، والصحة، ورفع مستوى الدخل. وهذا ما نراه في دول الخليج التي ركَّزت على التحدي الأهم وهو بناء دول ثرية ومنافسة في عالم يتغير باستمرار، وأصبح مَن يعيشون فيها من كل الجنسيات والأعراق والأديان يشعرون بأنهم في المكان الصحيح لتحقيق طموحاتهم. وكل هذا يبدأ مع نشر الوعي العقلاني الواقعي الذي سيخفف الاحتقان، وسيضعف ظاهرة التسخين شيئاً فشيئاً.
الشرق الأوسط