تتصاعد التوترات في شرقي سوريا، على وقع حملة اعتقالات موسعة تشنها قوات سوريا الديمقراطية ضد المدنيين، في مشهد يعكس التحولات التي تشهدها المنطقة بعد توقيع الاتفاق بين "قسد" ودمشق.
ورغم أن هذا الاتفاق مثّل لحظة مفصلية في المشهد السوري وكان يفترض أن يؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار، إلا أنه قد يتحول إلى شرارة لمزيد من التوتر والصراعات، فلم تكن تداعياته كما توقع كثيرون، إذ تزايدت حملة القمع بحق السكان، وسط مؤشرات على انقسامات داخلية وتضارب في المصالح بين القوى الفاعلة على الأرض.
لم تقتصر حملة الاعتقالات على ناشطين سياسيين أو معارضين، بل شملت مواطنين عاديين وشبابا مدنيين، حتى إن مجرد رفع العلم السوري الجديد أو صورة الرئيس أحمد الشرع والتعبير عن الفرح بسقوط النظام وتوقيع الاتفاق بات سببا كافيا للاعتقال والملاحقة.
في ظل هذه التطورات، تُطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل المنطقة، وحقيقة موقف "قسد" من الاتفاق، وما إذا كانت هذه الاعتقالات تعبر عن توجه جديد أم أنها مجرد انعكاس لخلافات داخلية بين القوى المسيطرة على الأرض.
ماذا يجري شرقي سوريا؟
لم تهدأ الاعتقالات في المناطق الخاضعة لسيطرة "الإدارة الذاتية" منذ سقوط نظام الأسد، لتزداد وتيرتها مع الأسابيع اللاحقة، حيث وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 59 حالة اعتقال بينهم 3 أطفال وسيدتين على يد قوات "قسد" في شهر يناير/كانون الثاني الماضي ليرتفع العدد في شهر فبراير/ شباط إلى 68 حالة اعتقال بينهم 6 أطفال.
وأوضحت الشبكة أن هذه الاعتقالات جاءت على خلفية قيام المحتجزين بإزالة شعارات ورايات "قسد" من بعض المواقع العامة ورفع العلم السوري الجديد (علم الثورة) خلال الاحتفالات الشعبية التي أعقبت سقوط النظام.
في العاشر من الشهر الجاري كان الحدث المفاجئ، وهو توقيع اتفاق بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي، تضمن ثمانية بنود رئيسية، كان أبرزها وقف إطلاق النار ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية ضمن الدولة وضمان حقوق الأكراد ورفض التقسيم.
عقب توقيع الاتفاق عمّت الاحتفالات مدن شرقي سوريا، فخرج الأهالي إلى الشوارع تعبيراً عن فرحتهم بهذه الخطوة التي وصفت بـ"التاريخية"، لتبدأ عقب ذلك حملة مداهمات واسعة من قبل قوات خاصة وأمنية تابعة لـ"قسد" و"الشبيبة الثورية".
وبحسب مصادر محلية لموقع "تلفزيون سوريا" فإن أحياء ومدن دير الزور والحسكة والرقة شهدت حملة اعتقالات واسعة طالت أكثر من 300شخص خلال الأيام الماضية، مستهدفة كل من وضع العلم السوري أو صورة الرئيس أحمد الشرع أو نشر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبر عن فرحهم بذكرى الثورة السورية.
كما أصدرت "قسد" توجيهات لمتعاونيها (مخبرين) بضرورة الإبلاغ عن أي شخص يعبر عن دعمه للحكومة السورية أو انتقاده لـ"قسد"، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو في الأماكن العامة وأماكن العمل، حسب ما قال مصدر محلي من مدينة الحسكة لموقع "تلفزيون سوريا".
وتزامنت حملة الاعتقالات مع مداهمة المنازل وتخريب محتوياتها وكسر الأبواب ومصادرة الهواتف المحمولة.
وأصدر ناشطو الجزيرة السورية من حقوقيين وسياسيين وإعلاميين بياناً أكدوا فيه أن قسد نفذت حملة اعتقالات واسعة طالت كل من يعارض توجهاتها السياسية والعسكرية واستهدفت أشخاصا من مختلف التوجهات.
واعتبر البيان أن هذه الاعتقالات تشكل انتهاكاً صارخاً لما نص عليه الاتفاق المبرم بين الشرع وعبدي حيث ينص في بنده السابع بوضوح على رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية، ومنع أي محاولات لبث الفتنة بين مكونات الشعب السوري.
وطالب الناشطون الحكومة السورية في دمشق بـ"التدخل العاجل للإفراج عن جميع المعتقلين فورا، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لحمايتهم، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات".
وكان الرئيس أحمد الشرع أكد في مقابلة مع وسائل إعلام تركية في 23 من يناير/ كانون الأول الماضي أن "هناك مكون عربي كبير في شرق سوريا تحت حكم قسد ويريد الارتباط مع الدولة السورية، وهناك اعتقالات من قبل قسد للمكون العربي، وأي اعتداء سيحصل عليهم ستكون الدولة ملزمة بالدفاع عنهم".
أسباب مباشرة وغير مباشرة
تنوعت دوافع حملة الاعتقالات التي شنتها "قسد" في شرقي سوريا بين أسباب مباشرة تتعلق بردود الفعل الشعبية على الاتفاق مع دمشق، وأخرى غير مباشرة تعكس مخاوفها من التحولات السياسية في المنطقة.
وفقاً للباحث السوري سامر الأحمد، فإن الأسباب المباشرة تتعلق بموقف الأهالي من الإدارة الجديدة وتأييدهم لها، حيث شهدت بعض المناطق عقب توقيع الاتفاق احتفالات، وحاول بعض الأشخاص التابعين لتنظيم "شبيبة الثورة" رفع صورة عبد الله أوجلان الذي يعتبر الزعيم الروحي لـ"حزب العمال الكردستاني"، لكن متظاهرين رفضوا ذلك.
وفي اليوم التالي شن عناصر "الشبيبة الثورية" التابعة لـ"قسد" حملة اعتقالات ممنهجة مستهدفة كل من شارك في تلك الاحتفالات.
أما فيما يتعلق بالأسباب غير المباشرة، وفق ما قاله الأحمد لموقع "تلفزيون سوريا"، فإن سقوط النظام أثار مخاوف "قسد" من فقدان سيطرتها على مناطق نفوذها، خاصة مع تنامي احتمالات تمدد الدولة السورية الجديدة، إلى شرق الفرات.
وزاد من هذه المخاوف وجود رفض اجتماعي واسع لـ"قسد"، سواء من العشائر العربية أو حتى بعض المكونات الكردية، ما جعلها ترى في حملة الاعتقالات وسيلة لإعادة فرض سيطرتها بالقوة وهيمنتها وإحكام قبضتها الأمنية.
وتسعى "قسد" من خلال التضييق الأمني والملاحقات إلى دفع أنصار الثورة السورية والسلطة الجديدة للخروج من المنطقة، في محاولة لتفريغها من أي قوى معارضة محتملة، فاليوم تشهد المنطقة حملة نزوح كبيرة وخاصة من فئة الشباب إلى محافظات حلب وإدلب هرباً من الاعتقالات والتجنيد الإجباري.
والأخطر من ذلك، حسبما يرى الأحمد، أن العديد ممن جرى اعتقالهم جرى تحويلهم إلى محاكم الإرهاب، حيث يتم تصنيفهم كإرهابيين، وليتم لاحقا محاكمتهم وفق قوانين مكافحة الإرهاب، ما يجعلهم يصنفون كمعتقلين على غرار سجناء تنظيم "داعش"، فقد حكم على بعض المعتقلين بالسجن لفترات تتراوح بين أربع وخمس سنوات.
من جانبه يرجع المحلل السياسي علي تمي سبب الاعتقالات إلى أن "قسد" تدرك تماماً تفاصيل الاتفاق الذي وقعته مع دمشق، لكنها غير مستعدة للسماح بأي مظاهر للاحتفال به، لأنها تدرك أن ذلك قد يؤدي إلى تقويض سلطتها.
ووفق تمي، فإن هناك أكثر من 50 حالة اعتقال وثقت بعد الإعلان عن الاتفاق، وهو مؤشر واضح على أن هناك تياراً قوياً داخل "قسد" يرفض تنفيذ بنود الاتفاق على الأرض، مرجحاً عدم تنازلها عن أي نقطة استراتيجية لصالح الدولة السورية إلا تحت ضغط عسكري مباشر.
اعتقالات تكشف صراع الأجنحة
في الوقت الذي كان يتوقع أن يفضي الاتفاق بين دمشق و"قسد" إلى تهدئة الأوضاع والاندماج في مؤسسات الدولة، جاءت التطورات على عكس ذلك تماماً، فقد صعدت كل من "قسد" و"مسد" (مجلس سوريا الديمقراطية) من خطابهما المعادي للحكومة السورية، ورفضا الاعتراف بالإعلان الدستوري المؤقت ولوحتا بعدم الاعتراف بالحكومة الجديدة.
التطورات الأخيرة في الشرق عن انقسامات داخلية بدأت تتكشف داخل "قسد" نفسها، حيث تلوح بوادر صراع بين جناحين متباينين.
الباحث سامر الأحمد اعتبر أنه عقب الاتفاق بدأت بوادر انشقاق واضح بين تيارين متباينين: الأول وهو تيار مظلوم عبدي السياسي وهو مؤيد للاتفاق مع دمشق، أما التيار الثاني هو التيار الأمني الذي يسيطر على المشهد ويقوده كوادر حزب العمال الكردستاني وقيادات جبل قنديل.
ويعتبر التيار الأمني صاحب النفوذ الأكبر والمسيطر ويرفض الاتفاق باعتباره تهديداً مباشراً لهيمنة الحزب وسيطرته الأمنية والعسكرية، على عكس التيار السياسي الذي ليس لديه سلطة لتنفيذ الاتفاق الوقع.
وتوقع الباحث حدوث خلافات وانقسامات داخل قسد قد تتجاوز تداعياته مجرد مماطلة في التنفيذ، وقد تصل إلى تصعيد داخلي قد يؤدي إلى انقسامات فعلية داخل قسد، ما سيضع دمشق أمام تحد جديد وهو التعامل مع شريك متفكك، غير قادر على ضبط قراره الداخلي.
وفي حال عدم تمكنت "قسد" من حسم هذا الصراع الداخلي سريعاً، فقد لا يكون فشل الاتفاق نتيجة لتدخلات خارجية فحسب، بل نتيجة انهيار "قسد" من الداخل.
من جانبه يرى علي تمي أن من يتحكم بالميدان ليست "قسد "التي هي واجهة أميركية للتعاطي مع العالم الخارجي وخاصة تركيا، لكن المتحكم الحقيقي هو حزب العمال الكردستاني الذي لن يلتزم بأي اتفاق لطالما له علاقات قوية واستراتيجية مع المحور الإيراني.
ووصف مظلوم عبدي بأنه "ورقة أميركية" تستخدمها حين اللزوم، و"لا يستطيع الخروج من الخطوط المرسومة له من قبل حزب العمال الكردستاني، وبالأحرى هو جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة ولكل منهم دور يقوم به".
وقال تمي أن "المتابع في بعض الأحيان يعتقد أن هناك خلافات أو صراعات داخل الحزب، لكن هي تبادل للأدوار فيما بينهم، وواشنطن تدرك جيداً هذا الأمر، ويبدو أنها تحاول ابتزاز تركيا بهدف إرضاخها وابتزازها على المدى البعيد ومنعها من التمدد داخل سوريا".
وفي الوقت الذي اعتبر فيه تمي أن الاتفاق لن ينفذ على أرض الواقع وبالتالي البديل هو الحرب، قال الأحمد إن "المنطقة ذاهبة نحو مجهول إذا لم يكن هناك ضغط دولي لإخراج قيادات التيار الأمني من سوريا".
وبشأن خيارات عبدي في ظل الخلافات داخل قسد، اعتبر الأحمد أن عبدي لا يملك أي خيار سوى الرضوخ لضغوط التيار الأمني وقيادات قنديل.
وقال إن أي "محاولة خروج لعبدي عن المسار سيتم قتله لأن سلوك حزب العمال دائماً مع المناوئين له أو المنشقين عنه دائماً القتل والتصفية كما حصل مع كثير من القيادات في تركيا وأوروبا".