تهاوى وكلاؤها عند أول نزاع شامل في المنطقة، فيما يواجه مرشدها الأعلى مأزقاً غير مسبوق في تاريخه السياسي.
يرى متابعون لشؤون الشرق الأوسط أنها فشلت في الدفاع عن الموالين لها، فيما يرى آخرون أنها تخلت عنهم مقابل تفاهم يضمن بقاء النظام.
نكشف خفايا مثيرة عن طبيعة نفوذها وشبكات مؤيديها التي تواجه غضباً داخلياً وسياسة "الضغط الأقصى" لإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.
فهل تظل طهران تحت تأثير صدمة سقوط نظام الأسد؟ أم أنها بدأت بالفعل في إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية؟
انهيار "الإمبراطورية"
لم يتردد عدد من كبار المسؤولين الإيرانيين في التحدث بحماس كبير خلال السنوات الأخيرة عن "السيطرة على عدة عواصم عربية".
لكن هذه "السيطرة" تواجه تحدياً وجودياً كبيراً عقب الانهيار السريع لنظام بشار الأسد، وتدمير جزء كبير من القدرات العسكرية لجماعة حزب الله في لبنان، المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة وعدة دول غربية.
التحدي اتخذ منحى تصاعدياً انطلاقاً من نيسان/ أبريل عام 2024، عندما بدأت كل من إيران وإسرائيل تبادل الضربات العسكرية المباشرة.
قبل ذلك، كانت إيران تتجنب الاشتباك المباشر مع القوات الإسرائيلية، فيما كان الجيش الإسرائيلي يركز أساساً على أهداف إيرانية داخل سوريا ولبنان.
الإيرانيون كانوا يعلمون منذ سنة على الأقل أن الأحداث في الشرق الأوسط لا تسير في صالحهم، وفق مدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، أليكس فاتانكا.
أما أسلوب تراجعهم فيشير إلى تواجد خطط مسبقة لديهم للانسحاب، وفق فاتاناكا في حديثه مع موقع الحرة.
"الآن لم يقرروا بعد إن كانوا يريدون تقويض نظام دمشق الجديد أو الحصول على اتفاق معه، حتى لا يخسروا موقعهم في سوريا"، يضيف فاتاناكا.
إيران تبقي الباب مفتوحا
وفي الوقت ذاته، تحرص طهران على فتح قنوات اتصال، تسمح لها بإيصال رسائل إلى إدارة ترامب قصد تجنب أي تصعيد.
يلاحظ فاتنكا أن أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، كان في زيارة إلى طهران، وأن الدوحة قد تكون إحدى أهم المفاوضين لأنها قريبة من الجانبين.
كما شكّلت سلطنة عُمان لوقت طويل نقطة محورية للحوار بين طهران وواشنطن، وفق الناطق باسم نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق، انتفاض قنبر.
ويستدل على ذلك بالمباحثات غير المباشرة التي جمعت مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى بنظرائهم الأميركيي.
نفس المصادر أكدت أن طهران بعثت عديد الرسائل السرية للتعبير عن استعدادها للتفاوض.
من جهته كرر ترامب رغبته في التوصل إلى اتفاق مع طهران بإمكانه تجنب أي تصعيد.
لكن السؤال الحقيقي، أو "سؤال المليون دولار"، هو كيف سيقوم ترامب بذلك؟
شبكة سي إن إن الأميركية قالت إن السعودية منفتحة على القيام بوساطة بين طهران وإدارة ترامب، بغرض التوصل إلى اتفاق جديد بين الولايات المتحدة وإيران.
كبير مراسلي صحيفة جيروزاليم بوست لشؤون الشرق الأوسط، سيث فرانتزمان، يرصد أن السعودية تطمح للعب ذلك الدور، من أجل تعزيز حضورها الإقليمي.
"إن الولايات المتحدة قبلت الوساطة القطرية مع طالبان، رغم استضافة الدوحة للمتطرفين، في حين أن السعودية طردتهم سعياً لعلاقات أفضل مع الغرب، لكن تحركها قوبل ببرود"، استدرك فرانتزمان.
لكن الإيرانيين وقيادتهم ممثلة في شخص المرشد علي خامنئي "لم يكونوا أبداً في هذا الموقف، من ناحية الاختيارات السياسية المعقدة الخاصة بحسابات الربح والخسارة"، وفق فاتنكا.
لذلك لا يمكن لطهران الوقوف بفعالية في وجه القوى الإقليمية مثل تركيا وإسرائيل والسعودية، فضلاً عن الولايات المتحدة.
أما العراق فأصبح نقطة محورية في المفاوضات المُفترَضة بين طهران وواشنطن.
لكن المفارقة تكمن في أن بغداد لا يمكن أن تكون وسيطاً يسهل المحادثات بين الطرفين.
جسر نحو بيروت بتمويل عراقي
نجاح المجموعات المسلحة الموالية لإيران بالتغلغل في الأوساط العراقية، فتح الباب أمام الخطوة الموالية للحرس الثوري الإيراني.
أليكس فاتنكا يشرح الأبعاد الجيوسياسية لذلك، بأن اعتماد إيران على سردية "مساعدتها للحكومة السورية في محاربة المتطرفين السنة" كانت مقامرة سياسية.
الهدف الرئيسي لتلك المقامرة كان بناء "جسر نحو بيروت".
يؤكد فاتنكا أن إيران لم تحارب داعش المتمركز أساساً في شرق سوريا.
طهران ركزت بدلاً عن ذلك على العاصمة، دمشق.
وبذلك أصبح ما يعرف بـ "الهلال الشيعي" متصلاً جغرافياً، ما مكّن طهران من دعم أكبر وكلائها في المنطقة، وهو جماعة حزب الله في لبنان.
لكن استمرار الحرب الأهلية في سوريا جعل الحفاظ على ذلك "الهلال" أمراً بالغ الصعوبة.
خامنئي استدعى كل القيادات الشيعية، عام 2014، وقال لهم: "نحن صرفنا 11 مليار دولار في سوريا".
وإيران لا تستطيع سداد تلك الأموال، لذلك على العراق دفع كلفة الحرب في سوريا ومصاريف حزب الله في لبنان.
تشير التقديرات الأميركية، إلى أن طهران أنفقت أكثر من 16 مليار دولار على حربها وكلائها، خلال الفترة الممتدة بين 2012 و2020.
يكشف ذلك الرقم انخفاض وتيرة إنفاق طهران على وكلائها، وتحول العراق إلى المموِّل الرئيسي للمشروع الإيراني في سوريا ولبنان.
ولقيادة تلك الجهود، استقدمت طهران شخصية مركزية من حزب الله اللبناني، وهو محمد كوثراني.
عمل كوثراني بنشاط لصالح الحرس الثوري الإيراني داخل العراق عقب سقوط نظام صدام.
وفي 22 آب/ أغسطس 2013، صنفت وزارة الخارجية الأميركية كوثراني كـ "إرهابي عالمي".
الخارجية الأميركية رصدت مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار، في إطار برنامج "مكافآت من أجل العدالة"، للإدلاء بمعلومات حول نشاطاته.
حزب الله اللبناني أتاح لإيران إدارة الجماعات الشيعية في العراق، وعمل على تسخير المؤسسات الإدارية والمالية العراقية لخدمة إيران تحت إشراف قاسم سليماني.
لكن طموح سليماني لجعل العراق "جمهورية إسلامية" مثل إيران كان له كلفة عالية. تلك الكلفة تضمنت حياته.
الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أعلن مقتل سليماني في غارة جوية أميركية عام 2020.
وما سيأتي بعد ذلك سيمهد لـ "انهيار أحجار الدومينو" الإيرانية.
الانهيار السريع لأحجار الدومينو الإيرانية في الشرق الأوسط لا يعود فقط إلى الأسباب العسكرية أو الأمنية.
غياب الرؤية لمرحلة ما بعد الحرب، والفشل في تقديم نموذج اقتصادي واجتماعي فعال، جعل "إمبراطورية" إيران هيكلاً هشاً، حسب أليكس فاتنكا.
الإيرانيون أنفسهم سئموا من انخراط حكومتهم في مشاريع خارجية مكلفة.
ولأن طهران تواجه عقوبات دولية، لا يمكن لشركاتها منافسة الشركات العالمية، وهي بحاجة إلى إيجاد حالة من الفوضى تسمح لها بالعمل.
تحركات بعد الأسد
خامنئي نفسه يواجه مأزقاً لم يألفه من قبل. فإذا اختار التصعيد سيصطدم بالغرب وينتهي نظامه، أما إذا قرّر التراجع فسيخسر ما تبقى من قواعده الشعبية.
والغضب الشعبي يتزايد يوميا، في ظل شلل متصاعد للإدارة الحكومية.
آخر مظاهر الفشل الحكومي كان الانقطاع المتكرر للكهرباء على مناطق واسعة، من بينها العاصمة طهران.
مزيج خطير من سوء الإدارة والتأثير المتصاعد للعقوبات أدى إلى انهيار تدريجي للخدمات في إيران.
الاحتجاجات لم تعد سياسية فقط، بل طالت نواحي الحياة اليومية.
رد فعل السلطات في طهران اقتصر على بدء إجراءات إقالة وزير الاقتصاد، وتبادل الاتهامات بين كبار المسؤولين.
كما قررت طهران تنظيم مناورات عسكرية كبيرة أطلقت عليها اسم "ذو الفقار" من أجل استعراض قوتها العسكرية، وهي جزء من عدة مناورات تجريها طهران بالاسم ذاته.
لكن مناورات "ذو الفقار" الأخيرة التي جاءت عقب سقوط نظام الأسد، والتحركات العسكرية الأميركية في المنطقة حملت طابعا خاصا.
الدكتور سعيد غولكار،أستاذ العلوم السياسية في جامعة تينيسي الأميركية، يقول إن المناورات العسكرية الإيرانية الأخيرة شهدت تغييراً جذرياً في الصورة التي تريد طهران إيصالها إلى العالم.
خلافاً للمرات السابقة حيث كانت السرية تطغى على نشاطات الجيش والحرس الثوري، كان الإعلام الإيراني حاضراً بقوة عبر تغطية غير مسبوقة للعمليات العسكرية.
الصورة الجديدة للقوات الإيرانية تريد طهران من خلالها التغطية على فشلها العسكري الأخير ضد إسرائيل.
فالهجمات الصاروخية الإيرانية خلال العام الماضي لم تسفر عن خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي.
بل على العكس من ذلك، نجحت إسرائيل في تحييد أهم منظومات الدفاع الجوي الإيراني خلال ردها على الهجمات الإيرانية.
ومن خلال مناوراتها الأخيرة أرادت إيران أن تقول إنها لا تزال تملك أسلحة فعالة في ترسانتها، حسب غولكار.
ويظل هاجس إيران هو تجنب تأثير العقوبات الأميركية سعياً لتقليل الخسائر الاقتصادية، ومحاولة الإبقاء على حضورها في المنطقة.
"لن يكون هناك تغيير في العلاقات الإقليمية حتى تبدأ طهران في التغيير الحقيقي"، حسب فاتنكا.
ويرى أن ذلك يقتضي أن تصبح إيران دولة تركز على تنميتها الذاتية، عندها ستكون قادرة على مواجهة الأزمة التي تعصف بها داخلياً.