في مسألة التصالح مع المصالح

لا يمكنك أن تدخل إلى هذا العالم إلاّ بقوانينه أو أنك ستكون غريباً فيه، كما لا يمكنك إنشاء كيانية معزولة منفصلة عن العالم دون الانسجام معه إلا في ظروف استثنائية لا تدوم طويلاً، فالمجتمعات الحالية ليست كيانات بشرية تعيش في مجاهل التاريخ حتى تتمكن من أن تختم على عقولها وترحل بها بحثاً عن المكان هروباً من التصالح مع المصالح التي يتميز بها إنسان العصر على نقيض سالفه، الذي كان يجد في الجغرافيا المتاحة لديه مساحة واسعة من الزمن يتلون فيه كيف يشاء.

فمسألة الاشتباك مع الخصم لها قوانينها المختلفة عن الماضي لكنها أيضاً ليست بعيدة عن المصالح وفق ثقافة غير بعيدة عن العصر الإسلامي الأول، فخالد بن الوليد ذهب في معركة مؤتة خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف، فأنقذ جيشه وحمل من لحظتها وساماً تفرد به "سيف الله المسلول" رغم أن عمله كان من حكمة السياسة، وآخرين من عصرنا الحالي ذهبوا إلى مواجهات كسروا فيها الجسور وأهلكوا شعوبهم لأنهم خلطوا مزيجاً من السياسة بغلاف من الدين، فالأول الذي اختار حكمة السياسة فاشتبك خطوة وعاد خطوتان عن الاشتباك، وبالتالي انتصر لرفاقه وهزم الحرب التي كانت ستأكل الجميع، وهي الفلسفة التي يفتقدها اليوم من يرون في مصالح شعوبهم عبئاً ثقيلاً عليهم، لأن الكيانية التي أنشؤوها في عزلتهم الأيديولوجية تسقط في مواجهة التصالح مع المصالح، خصوصاً أمام أهوال الحروب المعاصرة، فما سيأتي به الزمن هو أكثر أماناً من طي واقع المصالح.

فالصين لم تحارب لاسترداد هونغ غونغ، ولا تزال تحاول فيما بعدها رغم أنها دولة عظمى، فكيف تغري الأيديولوجيا مجموعات هنا وهناك في العالم الكبير، والجواب هي العزلة الثقافية التي يمكنك أن تعزل بها قطاعاً من الناس بحيث تعلي قدسية المصالح الحزبية فحسب، ولكي تنجح في ذلك كل ما يلزمك إغراقهم بالأيديولوجيا، وبالتالي لا يتخلى الإخوان المسلمون عن صناعة مزيد من قوالب العزلة من خلال ضخ ضخم عبر الإعلام خصوصاً أمام مشهدية الرعب والموت في غزة. لأنه من منظورهم سيكون تصالح الشعوب مع مصالحها تقود إلى هلاك فكرة التنظيم وتبعيته وبالتالي لا بد من تغطية هذه المأساة بلون آخر غير اللون القاسي في الصورة. غير أن أخطر ما في المسألة هو تصاعد مفهوم التطرف في الأيديولوجيا، وما استجد منه مسألتان في غاية الريبة، الأولى التلاعب في احتياجات الناس الأساسية، والثانية المبالغة في فكرة التضحية، بحيث تتجاوز المال وانخراط الرجال في كلفة الحرب، إلى قبول فكرة أكفان الأطفال واعتبار ذلك من أدوات القوة، في عملية تبرؤ كلي من الحس الإنساني، بما لم يكن مسبوقاً من قبل، لكن ذلك كله لا يأتي إلا كتعبير أزمة، فبدلاً من الاعتراف بالعجز عن حماية الناس، تصبح حماية المدنيين نوعاً من الكماليات أمام مصالح جوهرية تتطلب رؤية حماية مسار التنظيم وأهله.

التصالح مع الأيديولوجيات ليس جديداً بقدر ما نقرأ عن الكلفة البشرية الهائلة عنه، وهو لو بدأ وُدياً سوف ينتهي دموياً عندما تتخطى الأزمات قدرة الأيديولوجيا على صنع الإجابات، ليكون التصالح مع المصالح هو القديم الجديد وهو المتاح الممكن، فالمصالح الوطنية المتاحة اليوم قد لا تتكرر غداً، لكن مزيداً من الانتظار هو المزيد من الثمن، وبالتالي عندما يذهب الجدل نحو الوقت الذي تصبح فيه مسافة الدفاع عن الأيديولوجيا معبدة بالدماء، يصبح الحزب مجموعة من الأفراد الفاسدين، يمارسون انتهازية مفرطة تحت شعارات دينية، يمكنك أن تصنف هذه القوى أنها تمارس الخيانة الوطنية الكبرى تحت شعارات هنا وهناك، لذلك إن المعيار الحقيقي لنصرة الشعوب هو المسافة الزمنية التي تستطيع أن تبعد فيها الشعوب عن الكوارث، وهي المصالح الوطنية الحقيقية، ودون ذلك هي مجرد عبث ينقل المشهد من أزمة إلى أزمة، فنحن بين مشاريع الإخوان العبثية والتي هي عزلة فكرية منهجية ينتهي بها المطاف نحو واقع مأساوي صعب، عبّرت عنه من خلال تجاربها في غزة، وبين ما هو مصالح وطنية، تتطلب خروج الأيديولوجيا من المشهد، بما يعني التصالح مع المصالح الوطنية بعمومها ومغادرة العالم الفكري المغلق والغريب.

العربية

يقرأون الآن