القضية الفلسطينية منذ نشأتها فى مطلع القرن العشرين قامت على أمرين: الجغرافيا حيث يكون التنازع والصراع على الأرض، والمدى الذى يصل إليه كل طرف فى إقامة كيانه السياسى. والديموغرافيا حيث يكون الوجود البشرى على الأرض مدعاة للتفوق العسكرى والاقتصادى. القصة بعد ذلك معروفة على مدى مائة عام نجح فيها الإسرائيليون طوال الوقت فى توسيع نطاقهم الجغرافى؛ وعليه قامت دولة متفوقة من حيث الكم والكيف والروابط الدولية بالقوى الأعظم. الفلسطينيون على الجانب الآخر استمروا على الأرض ولكن مع انكماش مستمر فى المساحة، سواء قضى بها قرار التقسيم ١٩٤٧ أو نتجت عن حرب يونيو ١٩٦٧ أو حتى جاءت نتيجة الانتفاضة السلمية الأولى وحرب تحرير الكويت، حيث حصلوا على قرابة ٢٢٪ من الأرض وفقا لما كان مقررا فى «اتفاق أوسلو» حيث البقاء فى الضفة والقطاع. الانتفاضة الثانية، العسكرية هذه المرة، أوقفت مسار أوسلو، ودفعت اليمين الإسرائيلى إلى استقرار أبدى فى السلطة السياسية ينتقل من تطرف واستيطان إلى تطرف واستيطان آخر.
الهدية التى أعطتها حماس لإسرائيل كانت هجمة ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ التى كان معظمها على المدنيين الرجال والنساء والأطفال، وأضافت لهم جثثا إسرائيلية لكى تستخدمها فى عملية التفاوض. استحكم اليمين الإسرائيلى وخرج من العباءة السياسية إلى القبعة الدينية بأهداف أولها تدمير جميع الكيانات السياسية الفلسطينية؛ وثانيها فتح الباب على مصراعيه للاستيطان فى الضفة الغربية، والآن غزة؛ وثالثها إخراج الفلسطينيين من غزة والضفة. الظروف ساعدت إسرائيل عندما دخلت روسيا حرب أوكرانيا، وباتت الصين متوجسة خوفا على تايوان، وجاء ترامب إلى البيت الأبيض لكى يشارك الإسرائيليين فى الدفع بالفلسطينيين خارج بلادهم. استئناف إسرائيل للحرب وكسر وقف إطلاق النار، والعودة إلى القتل الجماعى والتهجير العرقى وسط صيحات عالمية للاستنكار، ولكنها فى نهاية الأمر تنتهى إلى عودة الجميع لإدارة أمورهم.
الآن تتعرض القضية الفلسطينية لأكثر الاختبارات قسوة فى جغرافيتها المنكمشة، وديموغرافيتها المتناقصة؛ فلم يعد كافيا مشاهدة زهو «حماس» وهى تقوم بتسليم المحتجزين حيث يقف جنودها بأزيائهم وأسلحتهم زاهية؛ ولا رشق إسرائيل ببضعة صواريخ لا تصيب هدفا، ولا حتى الصاروخ البالستى «فرط صوت» الدورى القادم من اليمن يشكل ما هو أكثر من اللجوء إلى الملاجئ. لوم العرب لأنهم لم يأتوا للعون لا يفيد لأن الاستدراج لم يعد مقبولا، ولا لوم المجتمع الدولى والقانون الإنسانى لأن لا أحد يسمع فى عالم يعرف جيدا أن ما فعلته حماس كان نقطة البداية التى لا تعرف لا الاستراتيجية ولا اليوم التالى؛ ولا حدود القوة وموازينها. فى منطقة بيت لاهيا وأمام المستشفى الإندونيسى وقف الفلسطينيون يهتفون «بدنا نعيش» فى صيحة قوامها أن حماس أخذت بهم إلى الجحيم، ثم أعلنت انتصارها لأنها ببساطة لا تزال باقية فى الأنفاق.