لا جديد تحت الشمس، فالدولة التى تتمتع بالقوة العسكرية والسيطرة على الممرات الملاحية وحركة التجارة وتدفقات رؤوس الأموال.. تملى شروطها، تحدد المبادئ التى يجب أن يسير عليها العالم، وتلك التى لا يمكنه مخالفتها. لكن ربما الجديد فقط هو أن تلك الدولة هى التى سطرت تاريخها بمداد من الصوابية السياسية، وصنعت تفرّدها وتميّزها الاقتصادى بإعلاء مبادئ تحرير التجارة وحركة الأموال والأفراد. هذه الدولة هى التى تعلن اليوم نكوصها "الانفعالى" عن جوهر تلك المبادئ، بدعوى أنها لم تحقق المصالح الأمريكية، ولم تعزز من رفاهية المواطن الأمريكى، وأنها تسببت فى أن تتعرض الولايات المتحدة للسرقة من شركائها التجاريين عبر عقود!.
عندما أعلن الرئيس الامريكى "ترامب" عن قرارات ما وصفه بـ"يوم التحرير"! فرض رسومًا جمركية شاملة بنسبة ١٠٪ على جميع الواردات، مع رسوم أعلى على بعض الدول التى وصفها بأنها "غير منصفة" فى تعاملاتها التجارية مع الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تعرضت الصين لتعريفة جمركية بنسبة ٥٤٪، بينما فرضت تعريفات بنسبة ٤٦٪ على فيتنام، و٣٢٪ على تايوان، و٢٠٪ على الاتحاد الأوروبى، و٢٤٪ على اليابان، و٢٦٪ على الهند.. وكانت مصر ضمن الدول التى تعرضت لرسوم بلغت ١٠٪ على صادراتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كانت لتلك القرارات آثار سلبية مباشرة على معدلات التضخم فى الولايات المتحدة، نتيجة لتشوّهات الأسعار بفعل الرسوم الجمركية، وسوء تخصيص الموارد الناشئة عن حماية المنتج المحلى الأقل جودة وكفاءة، فإن ارتدادات تلك القرارات على سياسات الدول الخاصة بتوطين الإنتاج وسلاسل الإمداد، وعلى حركة تدفقات رؤوس الأموال والبضائع، وعلى مؤشرات بورصات الأوراق المالية والسلع والخدمات والعملات، بل وعلى السياسات التجارية الانتقامية والاحترازية من قبل سائر دول العالم.. ستكون شديدة العنف والارتباك، خاصة مع بلوغ درجة عدم اليقين فى الأسواق مستويات مرتفعة للغاية.
كذلك من غير المفهوم أن تظل السياسات الاقتصادية التى صيغت تحت مصطلح "إجماع واشنطن" حاكمة لتوصيات مؤسسات التمويل الدولية للدول النامية. "إجماع واشنطن" هو مصطلح صاغه الاقتصادى جون ويليامسون عام ١٩٨٩ لوصف مجموعة من السياسات الاقتصادية، التى تهدف إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادى والنمو والاندماج فى الاقتصاد العالمى، خاصة بالنسبة للدول النامية. كانت هذه السياسات موجهة فى البداية نحو دول أمريكا اللاتينية التى تواجه أزمات اقتصادية، ولكنها أصبحت مرتبطة على نطاق واسع بأجندات الإصلاح الليبرالية الجديدة. وتشمل الركائز الأساسية لإجماع واشنطن الانضباط المالى، تحرير التجارة، خصخصة المؤسسات المملوكة للدولة، إزالة القيود التنظيمية، إصلاح الضرائب، والانفتاح على الاستثمار الأجنبى المباشر. وباستثناء إزالة القيود التنظيمية فإن إدارة "ترامب" تخالف تقريبًا مختلف الركائز التى فرضتها لعقود طوال على مختلف دول العالم تحت ستار إطلاق الحريات على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية.
ولأن منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط تعانى من عجز مزمن فى ميزان التجارة مع الولايات المتحدة، حيث قدّرت الصادرات الأمريكية للإقليم عام ٢٠٢٤ بنحو ٨٠.٤ مليار دولار والواردات بنحو ٦١.٣ مليار دولار، فإن إضرار تلك الرسوم بحركة التجارة البينية سيقع ثقله الأكبر على الولايات المتحدة. كما أن خضوع بعض الدول لضريبة الحد الأدنى (مثل مصر) يجعلها فى وضع مقارن أفضل من الوضع السابق بفرض ثبات العوامل الأخرى. لكن الصين هى الهاجس الأكبر للإدارة الأمريكية، تلك التى عززت نموّها العظيم بفائض صادرات كبير، وبدأت تتحوّل بالفعل إلى اقتصاد "رفاهة" معزّز بالاستهلاك المحلى بنسبة أكبر من ٥٤٪ على خلفية حرب التجارة مع إدارة ترامب الأولى.
مرونة الاقتصاد الصينى وكبر حجمه ساعاداه على التحوّط المسبق إذن لحرب جديدة، بما فى ذلك تنويع وجهات التجارة بشكل عميق. وفى بحث عن تحوّلات التجارة العالمية خلال الفترة ما بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٤ تبيّن أن التجارة الإجمالية للبضائع لدول الاتحاد الأوروبى قد نمت من ١،٦٩ تريليون دولار إلى ٥،٤٣ تريليون دولار، بمعدل نمو سنوى مركب ٤.١٪، بينما نمت تلك التجارة بالنسبة للصين من ٤٧٤ مليار دولار إلى ٦.١٦ تريليون دولار خلال ذات الفترة، بمعدّل معدل نمو سنوى مركب ١١.٣٪. تجاوز إجمالى حجم التجارة الصينى حجم التجارة الأوروبى بنسبة ١٤٪، حيث كان التصدير أعلى بنسبة ٢٨٪، بينما كانت الواردات متشابهة تقريبًا. ونتيجة لذلك، كان فائض التجارة الصينى أكبر بنسبة ٥١٠٪ من فائض التجارة الأوروبى. وبلغت نسبة التجارة من الناتج المحلى الإجمالى الصينى ٣٣٪ فى عام ٢٠٢٤ ولم تتجاوز تلك النسبة ٢٨٪ للاتحاد الأوروبى. بحلول عام ٢٠٢٤، أصبحت الصين الشريك التجارى المهيمن لمعظم آسيا والشرق الأوسط، وحوالى نصف إفريقيا، ومعظم الأمريكتين (باستثناء الولايات المتحدة والأرجنتين وعدد قليل من الاقتصادات الصغيرة)، وكذلك روسيا وأوقيانوسيا.
وعوضًا عن أن يتكتل المارد الاقتصادى الأمريكى مع شريكه التجارى وحليفه الأهم (الاتحاد الأوروبى وبريطانيا) لمواجهة التمدد الصينى، فإنه يفسح مجالًا لتكتلات وتفاهمات مناهضة للسياسات الأمريكية، كما يفسح مجالًا لانتشار الفوضى الهدّامة لثوابت الاقتصاد الحر، الذى لن يملأ فراغه سوى نظام اقتصادى جديد لا يعرف أحد من الذى يملك زمامه بعد.
المصري اليوم