العولمة المشروطة

في يناير (كانون الثاني) 2017، صعد الرئيس الصيني شي جينبينغ منصة منتدى دافوس الاقتصادي ليُلقي خطاباً بدا كأنه يعيد تعريف مواقف الدول من العولمة، دعا فيه إلى الانفتاح، محذراً من أن الانغلاق الاقتصادي طريق مسدود، ومؤكداً أن العالم لا يستطيع العودة إلى الوراء.

المفارقة أن هذا الخطاب لم يصدر عن زعيم دولة غربية، بل عن رئيس الصين، الدولة الشيوعية التي لطالما وُصفت بأنها من أبرز المستفيدين من العولمة من دون أن تسهم فعلياً في صياغة قواعدها.

في المقابل، كانت الولايات المتحدة تعيش تحوّلاً في خطابها الاقتصادي، بعد أن تسلم الرئيس دونالد ترمب مفاتيح البيت الأبيض خلال فترته الأولى، والذي رفع شعار «أميركا أولاً»، معلناً إعادة صياغة العلاقات التجارية الأميركية مع العالم، لم تمر شهور قليلة حتى بدأت إدارته بفرض رسوم جمركية على الصين وغيرها من الدول، في خطوة شكَّلت نقطة انطلاق لموجة سياسات حمائية غير مسبوقة منذ عقود.

لكنَّ هذه السياسات لم تكن مجرد رد فعل على العجز التجاري أو انتقال الوظائف، بل كانت جزءاً من توجه استراتيجي جديد يرى أن النظام التجاري العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، بات لا يخدم المصالح الأميركية كما كان سابقاً.

وترمب حينما فرض رسوماً جمركية كانت مدفوعة بقناعة راسخة بأن العولمة في صيغتها الحالية تسببت في تفكيك القاعدة الصناعية الأميركية ونقل ملايين الوظائف إلى الخارج، لم تكن الرسوم هدفاً في حد ذاتها، بل أداة ضغط لإعادة التفاوض على شروط التجارة وإجبار الشركات على إعادة التوطين داخل الولايات المتحدة.

هذه السياسة لم تتوقف مع نهاية ولاية ترمب الأولى، بل استمرت مع أعدائه الديمقراطيين، فخلال فترة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لم تتراجع واشنطن عن السياسات الحمائية التي بدأها ترمب، بل على العكس، جرى الحفاظ على الرسوم الجمركية وتوجيه الاستثمارات نحو الصناعات الاستراتيجية مثل أشباه الموصلات والطاقة المتجددة، وهذا ما يراه البعض إجماعاً نادراً في السياسة الأميركية على ضرورة إعادة التوازن للعلاقات التجارية، والتقليل من الاعتماد المفرط على الصين.

ومع عودة ترمب إلى البيت الأبيض، تَعزَّز هذا التوجه بصورة أوضح، فالقرارات الأخيرة للإدارة الأميركية وفرض رسوم جمركية شملت 180 دولة، بما فيها شركاء تقليديون للولايات المتحدة، تؤكد أن العولمة لم تعد خياراً مفتوحاً للجميع، بل أصبحت مرتبطة بمفاهيم المصالح. واليوم، تخوض الولايات المتحدة ما تشبه إعادة هندسة للعلاقات التجارية مع دول العالم وفي مقدمتها الصين.

كل هذه التحولات تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل العولمة: هل ما زالت قابلة للاستمرار؟ ومَن يحدد شروطها؟ وهل يمكن لنظام عالمي غير مستقر أن يحافظ على اقتصاد عالمي مترابط؟

الواقع يشير إلى أن العالم لم يعد يعيش مرحلة «العولمة الكاملة» التي سادت في التسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، بل انتقل إلى نموذج جديد يمكن وصفه بـ«العولمة المشروطة»؛ عولمة تخضع لمعادلات المصالح، حيث لم تعد المعايير الاقتصادية وحدها كافية لتحديد الشراكات أو عقد الاتفاقيات.

باتت الدول الكبرى تختار شركاءها بعناية، وتضع قيوداً على الاستثمارات والتبادلات، ليس فقط لحماية الأسواق، بل لحماية النفوذ والسيادة، وحتى في دافوس، الذي كان رمزاً للانفتاح العالمي، أصبح النقاش يدور اليوم حول تأمين سلاسل الإمداد، والحد من المخاطر المرتبطة بالاعتماد المفرط على الاقتصاد الصيني أو التكنولوجيات الأجنبية.

ما بدأ مواجهةً ثنائية بين أميركا والصين أصبح اليوم تحوّلاً عالمياً يعيد رسم حدود العولمة وشروطها. العولمة لم تنتهِ، لكنها تغيرت، ولم تعد تعني انفتاحاً كاملاً بل انفتاحاً مشروطاً بالمصالح الاستراتيجية.

الشرق الأوسط

يقرأون الآن