تعود المفاوضات الإيرانية الأميركية الى مربعها الأول الذي سجل لها النجاح الأهم في سلطنة عمان، وأسفر عن الاتفاق النووي، وسط آمال متجددة من الجميع لإبعاد شبح الحرب عن المنطقة.
في طائرة ماهان الإيرانية العائدة من دولة جارة لإيران، جلس الجميع منهكين بعد أن قضوا جزءًا من عطلة رأس السنة الإيرانية النوروز خارج البلاد. تقصّد بعضهم التأخر قليلاً بعد انتهاء العطلة كي لا يواجه ازدحامًا متزايدا في المطار والطرقات في هذه الفترة. تزامنت عودة الطائرة مع الإعلان رسميًا عن مفاوضات إيرانية أميركية في عُمان فجر الثلاثاء.
كنت أسترق النظر إلى صفحة الهاتف الجوال لمسافر يجلس بجانبي، يقلب في قنوات التلغرام متتبّعًا آخر الأخبار، من صفحة أخبار البورصة الإيرانية إلى صفحة أسعار صرف العملات الأجنبية إلى مواقع إخبارية مختلفة، يتوقف عند أخبار المباحثات الإيرانية الأميركية المرتقبة ويتجاوز غيرها.
سألته كيف هي أسعار الصرف فقال: "انخفض الدولار من 106 آلاف تومان إلى 98 ألف تومان"، وأضاف وهو ممّن يعملون في البورصة، أنّ سعر أونصة الذهب في الأسواق العالمية تراجع كذلك، وهناك انخفاض في سعر الذهب والعملات المعدنية أيضًا في سوق طهران، حيث وصل سعر الذهب إلى 3070 دولارا للأوقية، بانخفاض نحو 7 دولارات عن اليوم السابق، كما انخفضت أسعار الليرات الذهبية بين 5 الى 7 ملايين عن يوم الإثنين.
المفاوضات الإيرانية الأميركية.. تاريخ طويل
نعم، إنها المفاوضات من جديد، فهذه ليست المرة الأولى التي تخوض فيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية المفاوضات. وفي مفاصل تاريخية عدّة، كان "الخيار التفاوضي" مرجّحًا على "الخيار العسكري" الذي لم يغب عن تاريخ العلاقة بين الطرفين.
بين عامي 1979 و1981: إثر أزمة الرهائن الدبلوماسيين الأميركيين في طهران جرت اتصالات غير مباشرة عبر وسطاء (مثل الجزائر) أسفرت عن توقيع اتفاق الجزائر (يناير/ كانون الثاني 1981) الذي أدى إلى الإفراج عن الرهائن.
بين عامي 1985 و1986: أجرت إدارة ريغان اتصالات سرية مباشرة مع مسؤولين إيرانيين لتسليم أسلحة مقابل إطلاق رهائن أميركيين في لبنان. لكن لاحقًا انكشفت الأمور واندلعت فضيحة كبرى في الولايات المتحدة، سمّيت كونترا.
بين عامي 2001 و2003: دخول القوات الأميركية الى أفغانستان دفع إلى تعاون تكتيكي بين إيران والولايات المتحدة خلال مؤتمر بون حول أفغانستان، من خلال مفاوضات مباشرة ومحدودة، حيث ساعدت إيران في تشكيل حكومة كرزاي، لكن العلاقة انهارت بعد وصف الرئيس الأميركي السابق جورج بوش لإيران بأنها جزء من “محور الشر” في 2002.
بين عامي 2003 و2007: دفع الغزو الأميركي للعراق مجدّدًا إلى خوض الإيرانيين والأميركيين ثلاث جولات مباحثات بين مسؤولين أميركيين وإيرانيين في بغداد حول أمن العراق ومكافحة الجماعات المسلحة، لم تؤدِ إلى تفاهمات استراتيجية، لكنها كانت نادرة كمحادثات علنية.
بين عامي 2013 و2015: دفع البرنامج النووي الإيراني دفع باتجاه فتح قناة خلفية بين إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وإيران، مهدت الطريق لمفاوضات مباشرة لاحقة، حيث خاض الطرفان في إطار مجموعة 5+1 مفاوضات مباشرة بين عامي 2013 و2015، أسفرت عن توقيع الاتفاق النووي في يوليو/ تموز 2015.
بين عامي 2021 و2023: لاحقًا، وبعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب عام 2018 (في ولايته الرئاسية الأولى) من الاتفاق النووي، وبعد مجيء جو بايدن الى البيت الابيض خاضت إيران والولايات المتحدة بين عامي 2021 و2023 محادثات غير مباشرة بوساطة الاتحاد الأوروبي تهدف إحياء الاتفاق النووي، لكنها تعثرت مرارًا.
بين عامي 2023 و2024: يدخل وسطاء كثر على الخط بين طهران وواشنطن لتسهيل مفاوضات غير رسمية حول قضايا مختلفة تركز على تبادل سجناء، تجميد العقوبات، الأوضاع في المنطقة الخليجية، و قد أسهم في ذلك دول عدة منهم: قطر، سلطنة عمان، وأحيانًا سويسرا بصفتها راعية للمصالح الأميركية في طهران، وقد أثمرت عن صفقة تبادل سجناء في سبتمبر/ أيلول 2023 مع تحرير 6 مليارات دولار لإيران.
عمان.. عود على بدء
اليوم تعود المفاوضات الإيرانية الأميركية الى مربعها الأول الذي سجل لها النجاح الأهم في سلطنة عمان، وأسفر عن الاتفاق النووي، وسط آمال متجددة من الجميع لإبعاد شبح الحرب عن المنطقة.
فإلى فندق قصر البستان المطل على خليج عمان، سيعود الوفدان الإيراني والأميركي، حيث اختارت طهران وزير خارجيتها الحالي عباس عراقتشي ليرأس وفد إيران، واختار دونالد ترمب مبعوثه الخاص لشؤون الشرق الاوسط ستيف ويتكوف ليرأس الوفد الأميركي، ولكلا الخيارين دلالات مهمة تؤكد عزم وجدية الطرفين.
وبين تصريحات ترمب حول أن المفاوضات مباشرة وتصريحات عراقتشي حول أنها غير مباشرة، لا يبدو أن طهران معنية بالشكل تمامًا، إذ يقول مراقبون: "إذا ثبتت جدية الطرفين وحسن نواياهما فيمكن الانتقال من الجلوس في غرفتين منفصليتين ينتقل بينهما الجانب العماني، إلى غرفة واحدة بمقاعد متباعدة ربما". وفي حين تغرق وسائل الإعلام إيرانيًا وعربيًا وعالميًا بمناقشة هذا التفصيل، يقول عراقتشي للتلفزيون الرسمي: "شكل المفاوضات ليس مهمًا، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، فالمهمّ هو إن كانت مؤثرة أو لا، جدية أم لا، نوايا الطرفين، وعزمهما للوصول الى حل.. هذا هو المعيار".
مفاوضات مباشرة أم غير مباشرة؟
بعيدا عن الشكل، سيجلس الوفدان برفقة الوسيط العماني في "قصر البستان" البعيد نحو ثلاثين كيلومترا عن مسقط، في هدوء وعزلة بعيدًا عن عدسات الكاميرات وأعين الآخرين. لم يكن خيارًا اعتباطيًا، فرسالة ترمب التي وصلت عبر الإمارات، ردّت عليها إيران عبر سلطنة عمان، فكان لها ما أرادت.
لكن العودة إلى عمان مختلفة هذه المرة، فالطرفان يدركان المتغيرات الكبيرة في المنطقة والعالم، من سياسات ترمب، إلى المشهد في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. فبالنسبة لإيران لم يعد "محور المقاومة" كما كان، كما أنّ المشهد داخل إيران أيضًا لم يعد كما كان.
ليست المرة الأولى التي تخوض فيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية المفاوضات. وفي مفاصل تاريخية عدّة، كان "الخيار التفاوضي" مرجّحًا على "الخيار العسكري" الذي لم يغب عن تاريخ العلاقة بين الطرفين.
عسكريًا، سعت إيران للرد على تهديدات ترمب و تحشيده العسكري في المنطقة من الشرق الأوسط إلى جزيرة " دييغو غارسيا " بالكشف عن مزيد من مدنها الصاروخية السرية ومواصلة التدريبات والمناورات العسكرية طوال أشهر منذ نهاية عام 2023 وحتى قبل أسابيع حين نفذت مناورة مشتركة بحرية مع الصين وروسيا في بحر عمان نفسه الذي قد يطل عليه الوفد الأميركي من نافذة "قصر البستان" و هو يجدد قواه خلال المفاوضات المنتظرة يوم السبت المقبل مع الوفد الإيراني، و سيتذكر ربما أيضًا أن الحرب قد تدفع إيران لخيارات لن تكون سهلة على أحد، إذ ألمحت إلى "إغلاق مضيق هرمز" غير البعيد عن هذه المياه وإلى استهداف القواعد الأميركية في المنطقة.
تاريخ طويل من الصدام بين أميركا وإيران
في العلاقة المتوترة منذ 1979 جربت إيران وأميركا الصدام مرات عديدة، منذ فشل عملية "مخلب النسر" الأميركية في أبريل/ نيسان 1980 في صحراء طبس، ومقتل 8 جنود أميركيين، في محاولة للإفراج عن 52 دبلوماسيًا اثر اقتحام السفارة الأميركية في طهران، مرورًا بمنتصف الثمانينات حيث استهدفت منشآت بحرية إيرانية في الخليج خلال "حرب الناقلات" (إيران – العراق)، وعملية "براينغ مانتيس" الأميركية التي دمرت قطعًا بحرية إيرانية ردًا على انفجار لغم بسفينة أميركية، وأسقطت أميركا طائرة ركاب إيرانية (رحلة إيران إير 655) في 3 يوليو/ تموز 1988 فوق المياه الخليجية؛ ما أسفر عن 290 قتيلًا، وصولاً إلى ما اصطلح على تسميته بالحرب بالوكالة منذ 2003.
لكن بعيدًا عن الاتهامات الإيرانية للولايات المتحدة وإسرائيل بتنفيذ اغتيالات لعلماء نوويين إيرانيين عام 2010 وتسريب فيروس "ستاكس نت" إلى المنشآت النووية الإيرانية وإسقاط إيران لطائرة تجسس أميركية بدون طيار (RQ-4 Global Hawk) فوق مضيق هرمز في يونيو/ حزيران 2019، فإن اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، في ضربة أميركية قرب مطار بغداد، في 3 يناير/ كانون الثاني 2020، وردّ إيران بعد أيام عليه بمهاجمة قاعدة "عين الأسد" الأميركية في العراق؛ ما أسفر حسب بعض التسريبات عن إصابة أكثر من 100 جندي بارتجاج دماغي، كان بمثابة بداية التحول، التي أشعلت حرب الظل بشكل كبير وسع من نطاق الصراع في المنطقة، في خضم ما تقوم به اسرائيل ضد غزة ولبنان وسوريا واليمن، فضلاً عن جبهات أخرى.
إيران "تتفاوض" مع من أمر بقتل سليماني؟
تتفاوض إيران مع من أمر بقاتل سليماني، هكذا قد يقول البعض، لكنّ مطّلعًا على خفايا القرار الإيراني بالتفاوض يقول إنّ "سياسة إيران الثابتة دائمًا هي فصل الملفات".
ويذكّر بأن شروط إيران للمفاوضات تحققت حتى الآن، فالمفاوضات ستكون في عمان وبشكل غير مباشر وتركز على الملف النووي من دون التطرق إلى خطوط إيرانية حمراء متمثلة بالبرنامج الصاروخي والقدرات الدفاعية والدور الإقليمي.
وهذه هي الأسس التي بني عليها الاتفاق النووي، الذي وإن كانت تفاصيله لم تعد تفيد أي طرف في ظل تقدم البرنامج النووي الإيراني وتغير الكثير من الظروف وتجاوز الكثير من التواريخ، إلا أن "هدفه بضمان التزام إيران بعدم السعي أبدًا تحت أي ظرف من الظروف، إلى امتلاك أو تطوير أي أسلحة نووية" لا يزال قائمًا، وفق ما يقول وزير خارجية إيران.
كعكة إيرانية في الفرن لترمب
قبل أيام على الذهاب الى عمان، يرسم عباس عراقتشي في مقال له في واشنطن بوست، خارطة طريق نجاح المفاوضات كما يقول: "الكرة الآن في ملعب أميركا. إذا سعت إلى حل دبلوماسي حقيقي، فسنمضي بالطريق. أما إذا سعت، بدلًا من ذلك، إلى فرض إرادتها بالضغط، فعليها أن تعلم أن الشعب الإيراني يردّ بحزم على لغة القوة والتهديد.. هناك فرصة للولايات المتحدة أن يكون لها أخيرًا رئيس سلام. اغتنام هذه الفرصة من عدمه هو خيار".
لا يكتفي عراقتشي بحديث السياسة والأمن، بل يرمي للرأي العام الأميركي ما يحبه ترمب، يقول: "إيران ترحب بالشركات من جميع أنحاء العالم. ومن وضع العوائق في هذا الطريق أمام أميركا هي الإدارات الأميركية والكونغرس، وليس إيران، ما حال دون استفادة الشركات الأميركية من فرصة تريليون دولار التي يوفرها الوصول إلى اقتصادنا".
وفيما تواصل إيران التشاور مع حلفتيها روسيا والصين، من خلال اجتماع ثلاثي بات يتكرر، وتسعى لترتيب المشهد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أيضًا باستقبال مديرها العام قريبًا، تدرك أن الوقت يكاد يستنزف مع اقتراب موعد انتهاء الاتفاق النووي في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، تسرّب مصادر إيرانية وإقليمية لرويترز ما يدور في خلد إيران، فطهران ترغب في رؤية مبادرات ملموسة من الولايات المتحدة قبل أي محادثات مباشرة بين المسؤولين الإيرانيين والأميركيين. يقول مصدر إقليمي لرويترز: "أبلغنا الإيرانيون بإمكانية إجراء محادثات مباشرة، ولكن يجب أن تكون هناك بادرة حسن نية. يجب رفع بعض العقوبات أو الإفراج عن بعض الأموال".
هو حديث سياسي نووي، تريده إيران لحل ازماتها الاقتصادية وسط واقع صعب سجل فيه الدولار ارتفاعًا وصل إلى 60% خلال أشهر قليلة على تسلم مسعود بزشكيان الرئاسة الإيرانية. تقول المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني: "نريد الحفاظ على مصالحنا عبر المفاوضات وتحسين ظروف الإيرانيين المعيشية".
فهل ستتمكن عمان من توفير الأجواء المناسبة لبناء أرضية جديدة لاتفاق جديد، وهي التي لطالما كانت مأمن طهران ووسيطة واشنطن؟
العربي