خلال رحلتي في معترك السياسة في لبنان، برزت أزمة ما يُعرف بالترويكا، وهي ظاهرة تمثلت باحتكار الرئاسات الثلاث السلطة التنفيذية، بحيث أصبحت اجتماعاتهم الدورية والتحاصصية الوسيلة الوحيدة لتسيير العمل الحكومي، متجاوزين بذلك المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها مجلس النواب، الممثل الأول للشعب والأمة.
بطبيعة الحال، كان أي خلاف ضمن هذا الثلاثي يُحلّ بتدخل "المفوض السامي" السوري، ممثلاً باللواء غازي كنعان – المعروف بلقب "أبو يعرب" – أحد أكبر رموز الإجرام خلال فترة الوصاية السورية على لبنان.
اللافت اليوم هو محاولة الطبقة السياسية الحالية، وتحديداً رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب بمن يُمثلهما، استحداث هذه الترويكا من جديد، والسعي لإجبار رئيس الحكومة نواف سلام على الانضمام إليها قسراً، تحت ذريعة "المرحلة الدقيقة" التي تمرّ بها البلاد.
في الاستحقاقات والتعيينات التي مرّت بها حكومة نواف سلام حتى الآن – وعلى رأسها تعيين حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، وهو خيار جيد بالمناسبة – بدا واضحاً أن صفقات حصلت بين رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، إلى جانب أقطاب سياسيين آخرين نجحوا في فرض توازناتهم على العملية. في المقابل، بقي سلام خارج هذه اللعبة، إما لأنه لا يرغب في الانخراط فيها، أو لأنه لا يجيدها، وهذا أمر يُحسب له من حيث المبدأ.
أما النقاش الدائر حالياً حول نزع سلاح "حزب اللّه"، عبر ما طرحه فخامة الرئيس من حوار ثنائي يجريه مع قيادة "الحزب"، فهو ليس سوى محاولة جديدة لإدراج الترويكا ضمن برنامج تشغيل للعهد الرئاسي، بحيث يصبح الرئيس، بوصفه "الرئيس القوي"، هو مركز الثقل الذي يدير نظام المحاصصة.
وهنا تكمن خطورة الطرح الرئاسي الحالي: إذ إن محاولة إضفاء شرعية دستورية على ما يُسمّى "الحوار الثنائي" مع "حزب اللّه" لا تتجاوز فقط النصوص، بل تخلق سابقة خطيرة تُعطي طرفاً مسلّحاً، غير خاضع للدولة، صفة الشريك السياسي المتساوي في تقرير مصير السيادة والدفاع الوطني. إن هذه الخطوة لا تعني فقط الانقلاب على الطائف، بل تُمثل تسوية موازين قسرية فرضها السلاح بقوة الأمر الواقع.
إلّا أن اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية – نعم، أهلية – أدخل تعديلات دستورية واضحة أرست مبدأ المساواة القانونية بين المسلمين والمسيحيين نظرياً، ومن أهم تلك التعديلات الفصل الواضح بين السلطات. من هذا المنطلق، تُعدّ الترويكا، بأي شكل من أشكالها، كياناً غير شرعي وغير دستوري.
رئيس الحكومة نواف سلام، وهو من أبرز الباحثين في دستور لبنان واتفاق الطائف، مدرك تماماً هذا الواقع، ورفضه الانخراط في هذه المؤسسة الهجينة وغير الشرعية هو موقف مشرّف، يعكس التزامه بخط إصلاحي واضح.
ما يزيد من أهمية هذا الرفض هو أن نواف سلام، على خلاف كثيرين قبله، يدرك أن محاولة إعادة تعويم النظام السياسي من داخل الترويكا لن تؤدي إلى إصلاح بل إلى المزيد من التآكل المؤسسي، حيث تتحوّل الدولة إلى مظلة شكلية لمشاريع الفساد والميليشياوية. إن سلام، سواء اتُفق معه أم لا، يُجسّد – في هذه المرحلة – الحدّ الأدنى من فكرة "الدولة كمرجعية"، لا كوسيط بين أجنحة السلاح.
بدلاً من التلاعب بالطائف والدستور، والترويج لأطروحات عبثية كالحوار مع سلاح الحرس الثوري الإيراني في لبنان، يجدر بالقائمين على الدولة، وعلى رأسهم الرئيس عون ومستشاروه والمقربون منه، إعادة قراءة الدستور اللبناني، ولا سيّما مادته الأولى:
"لبنان دولة مستقلّة ذات وحدة لا تتجزّأ وسيادة تامة. أما حدوده فهي التي تحدّه حالياً".
فالسيادة الكاملة مبدأ غير قابل للتفاوض أو التأجيل، ومحاولة التستر خلف نواف سلام وحكومته لتجنّب اتخاذ القرار الصائب، لم تعد خياراً متاحاً، لا سيّما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي دمّرت بنية "حزب اللّه" العسكرية بشكل كبير، وعرّت سرديّته "الممانعة" من محتواها.
إنّ ما بعد الحرب الأخيرة يجب أن يُقرأ باعتباره لحظة مفصلية: لحظة سقوط رمزي، وسياسي، وعسكري لمشروع "السلاح كهوية"، ولبنان أمام فرصة نادرة لاستعادة دولته، شرط أن يتحلّى قادته بالحدّ الأدنى من الشجاعة والوضوح السياسي. أي حديث عن "تهدئة" أو "حوار" في هذا السياق هو ضرب من المكابرة أو الخضوع لواقع انتهت صلاحيته.
لبنان اليوم أمام فرصة، لا أزمة فقط. فرصة لاستعادة الدولة، وتطبيق الدستور، وإنهاء وهم "التسويات الموقتة" التي لا تؤدي إلّا إلى تفكك الدولة وإبقاء سلاح الدويلة فوق القانون.
نداء الوطن