المراقبُ لمسار العلاقات السعودية - الإيرانية يجد أنها تسير في مسارٍ إيجابيٍ تصاعدي، خطوة بخطوة، من دون استعجال أو بطء؛ منذ توقيع «اتفاق بكين» 10 مارس (آذار) 2023، حيث مرت العلاقات باختبارات حقيقية إثر الأحداث المفصلية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، عقب عملية «طوفان الأقصى» 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والحرب الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة ولبنان، وما أحدثته من ارتدادات سلبية على الأمن القومي العربي.
رغم تباين وجهات النظر حيال هذه الأحداث بين السعودية وإيران، فإنهما استطاعتا أن تخلقا مساحة مشتركة للتنسيق والتعاون، وتحييد نقاط الاختلاف، والتركيز على أولوية وقف العدوان الإسرائيلي، وتوفير الاحتياجات الإنسانية للمدنيين العزل، ومنع توسع نطاق الحرب.
إرادة الرياض وطهران في عدم العودة بالعلاقات إلى المربع الأول، وإدراكهما لأهمية حل التباينات عبر الحوار الجاد والشفاف، وحقائق الجغرافيا - السياسية، ووجود تحديات مشتركة في الإقليم أمنياً كالحرب الإسرائيلية، واقتصادية كأسعار الطاقة، واجتماعية كالخطاب الطائفي المتشدد؛ كُلها عوامل تداخلت وجعلت البحث عن إطار تعاونٍ أولي أمراً ممكناً، خصوصاً أن هنالك صيغاً سابقة نَصَّ «اتفاق بكين» على تفعيلها، وأهمها «الاتفاقية الأمنية» الثنائية.
كلتا القيادتين السياسيتين في السعودية وإيران، استطاعت تجاوز اللحظة الحرجة التي حدثت عام 2016 عندما تم قطع العلاقات الدبلوماسية، بعد أن تمت مهاجمة البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد.
ضمن هذا المسار التطوري في العلاقات بين البلدين، تأتي زيارة وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان إلى إيران، ولقاؤه المرشد علي خامنئي وتسليمه رسالة خطية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حيث عدّ خامنئي أن «العلاقة مع السعودية مفيدة لكلا البلدين، ويمكننا أن نكمل بعضنا».
اللقاء مع المرشد خامنئي الذي تم بـ«توجيه من القيادة»، وفق ما كتبه الأمير خالد عبر حسابه بمنصة «إكس»، تمت فيه مناقشة «العلاقات الثنائية»، كما «القضايا والمواضيع ذات الاهتمام المشترك».
إن لقاء الأمير خالد مع المرشد خامنئي، لا تمكن قراءته بصورة عابرة، فهو تم مع أعلى قيادة إيرانية، لها ثقلها السياسي والديني، فالمرشد وفق الدستور الإيراني لديه صلاحيات واسعة، وصاحب الكلمة الفصل في السياسة الخارجية، كما تكييف المواقف ليس سياسياً وحسب، بل إعطاء الشرعية الدينية والبعد الفكري لها؛ ولذا، فالحديث الإيجابي من المرشد عن العلاقات مع السعودية، يمنح زخماً لحكومة الرئيس مسعود بزشكيان، التي تريد بناء علاقات حسنة مع دول مجلس التعاون الخليجي. أيضاً، هذا الدعم للتفاهمات الإيرانية - السعودية، يجعل الخطابات الثورية التي تصدر عن بعض الشخصيات الموالية لإيران في «محور المقاومة» والتي تستعدي المملكة، أقل تأثيراً، بل يدفعها للصمت والكف عن استهداف السعودية، لأنها مُلزَمةٌ بأوامر «المرشد» بوصفه «الولي الفقيه» الذي تجب عليهما طاعته.
تاريخياً، التقى خامنئي شخصيات سعودية رفيعة المستوى، في مناسبات مختلفة، وأهمها لقاؤه مع كل من الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، حين كان ولياً للعهد. وأيضاً لقاءاته وزير الدفاع الراحل الأمير سلطان بن عبد العزيز، والراحل وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، كما الأمين العام السابق لـ«مجلس الأمن الوطني» الأمير بندر بن سلطان. والآن مع وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان، ما يعطي إشارة لما تحظى به القيادة السعودية من مكانة واحترام، ومعرفة المسؤولين الإيرانيين بالثقل السياسي والديني للمملكة.
عندما عقدت الجولة الأولى من المفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، في العاصمة العمانية مسقط، 12 أبريل (نيسان) الحالي، أصدرت الخارجية السعودية بياناً أكدت فيه «دعم المملكة لهذه الجهود، واتباع نهج الحوار سبيلاً لإنهاء جميع الخلافات الإقليمية والدولية»، مبدية «تطلعها لأن تفضي نتائج المحادثات الإيرانية - الأميركية إلى دعم العمل المشترك لتعزيز الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم». بعدها جرى اتصال بين وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ونظيره العماني بدر البوسعيدي، تناول تطورات المباحثات بين واشنطن وطهران. وفي 14 أبريل الحالي، تلقى الأمير فيصل بن فرحان اتصالاً من نظيره الإيراني عباس عراقجي؛ وهذه الاتصالات تدلُ على أن الرياض مهتمة ومعنية بمتابعة المباحثات بين أميركا وإيران، وأن المملكة تريد لها الوصول إلى اتفاق عادلٍ ومتوازن يحقق الأمن الإقليمي ليس لإيران وأميركا وحسب، بل لدول الخليج العربية، لأن بناء أمن دائم وسلام مستدام مسؤولية مشتركة ينبغي على الجميع التعاون من أجل تحقيقها.
واللافت في زيارة الأمير خالد إلى إيران، أنه كان بمعيته رئيس هيئة الأركان العامة فياض الرويلي، والسفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، ما يعني أن الملف العسكري وملف اليمن، كانا حاضرَين في النقاشات البينية التي جرت بين وفدَي البلدين.
إن السعودية بهذه الزيارة خطت خطوة دبلوماسية متقدمة، لا تروم من خلالها تعزيز العلاقات الثنائية وحسب، وإنما أيضاً تجنيب المنطقة أي مواجهات محتملة بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى.
السعودية اليوم تقدمُ نفسها دولةً رئيسةً صانعةً للسلام، من خلال مساعيها للتقريب بين الولايات المتحدة وروسيا، والولايات المتحدة وأوكرانيا، أو اشتغالها على ملفات: السودان، وسوريا، ولبنان، بما يحقق الاستقرار في هذه البلدان؛ ولذا فإن جزءاً رئيساً من «صناعة السلام» يتم من خلال هذه اللقاءات الرفيعة المستوى التي جرت في إيران، والتي من المنتظر أن تستكمل مفاعيلها في خطوات مستقبلية تالية، تترجم عملياً في تخفيف التوترات في البحر الأحمر والمناطق التي لإيران نفوذ أو حلفاء فيها، من دون إغفال ما قد تمارسه إسرائيل من دور تخريبي، تروم من خلاله إفشال أي تقارب بين السعودية وإيران.