دخلت المفاوضات الأميركية - الإيرانية مرحلة جديدة مع إعلان تشكيل لجنة فنية لدرس التفاصيل المرتبطة بالخطوات المفترض اتخاذها في ما يتعلق بالخطوات الإيرانية المرتبطة بأنشطة تخصيب اليورانيوم في مقابل الخطوات المتعلقة بآليات رفع وإلغاء العقوبات الاقتصادية والمالية.
ويبدو أن الطرفين يسارعان من أجل الوصول إلى نقطة التفاهم حتى بالحد الأدنى، أو ما يمكن تسميته اتفاقاً موقتاً، انطلاقاً من اعتبارات خاصة بكل فريق، فبالنسبة إلى الإدارة الأميركية فهي تريد الانتهاء من الملف الإيراني لتحقيق إنجاز دبلوماسي وسياسي وأمني للرئيس دونالد ترمب، إضافة إلى عدم السماح لطهران بتطبيق سياسة إتلاف الوقت، وفي المقابل فإن الفريق الإيراني المفاوض الذي يملك صلاحيات واسعة في المفاوضات لا يملك كثيراً من الوقت لتحقيق هذا الاتفاق، بخاصة وأن دول الـ "ترويكا" الأوروبية لا تزال ترفع راية نقل الملف الإيراني إلى مجلس الأمن لتفعيل آلية الزناد التي تسمح بإعادة تفعيل العقوبات الدولية الصادرة بموجب قرارات المجلس.
ولا شك في أن طرفي المفاوضات، ومن خلال جس النبض الذي استمر أكثر من شهرين وتوج بالرسائل المتبادلة بين الرئيس دونالد ترمب والمرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي، قد وصلا إلى قناعة بإمكان الدخول في مساومة تسمح بتأمين مصالح كل منهما، من دون أن تدخل أية تنازلات قد يقدمانها في سياق التفاوض في خانة التراجع أو الهزيمة أو الخسارة.
اقتراب الطرفين من مفهوم التسوية أو المساومة جعل من السهل على كل منهما تحت خطوطه الحمر التي لم تكن كثيرة في الظاهر لكنها تؤسس نتيجة اختبار النيات لمرحلة جديدة من التفاوض مستقبلاً، فالتراجع عن السقوف العالية التي وضعتها واشنطن قبل انطلاق المفاوضات تراجعت لمصلحة الخطوط الحمر الرئيسة، والتي يمكن تلخيصها بعدم امتلاك إيران للسلاح النووي والحد من أنشطة التخصيب وعودتها للسقوف التي كان معمولاً بها في اتفاق عام 2015، مع فرض رقابة مشددة طويلة الأمد، وقد تكون بمشاركة أميركية مباشرة، وهي خطوط لا تعارضها طهران.
طرفا المفاوضات يعملان تحت سقف زمني ضيق ومحدد لا يتعدى الشهرين، ويدركان أن عليهما التوصل إلى اتفاق جديد يقوم على روحية الاتفاق السابق ولا يقف عنده، في الأقل عن موعد أكتوبر (تشرين الأول) المقبل الذي تنتهي فيه مفاعيل هذا الاتفاق، مما يعني أن النظام الإيراني سيتخلى ضمناً عن مفهوم غروب أو أفول الاتفاق، وفي المقابل فإن واشنطن ستحقق مكسباً واضحاً بتمديد الشروط التي جاءت في هذا الاتفاق بما يسمح لها باستمرار عمليات التفتيش والمراقبة المشددة والمتشعبة، إضافة إلى تمديد الشروط المتعلقة بالتسلح الإيراني بيعاً وشراء.
والخطوط الأميركية قابلتها خطوط حمر إيرانية أيضاً، تبدأ بحصر التفاوض المعلن على البرنامج النووي دونه غيره من المسائل، إضافة إلى عدم موافقة طهران على أية صيغة تسوية تتضمن تفكيك برنامجها النووي، مع القبول بمستويات من الرقابة والتفتيش يجري التفاهم والاتفاق حولها، إضافة إلى المطلب الأساس المتعلق برفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن نتيجة الأنشطة النووية.
الواقعية الإيرانية في التعامل مع المفاوض الأميركي تجعل من الصعب عليه فتح ملف إلغاء جميع أنواع العقوبات أو الحصول على ضمانات بالحصول على موافقة مجلسي النواب والشيوخ عليها، لأن الدخول في هذا المسار يستدعي من طهران أن توافق على فتح التفاوض ووضع البرنامج الصاروخي والمسيرات والنفوذ الإقليمي والحلفاء أو الأذرع التابعة لها على الطاولة، وهذا ما لا ترغب فيه خلال هذه المرحلة، لأنه يفتح الطريق أو الباب أمام تعريتها من كل أوراق القوة التي تملكها.
وما تقوم به إيران من توسيع دائرة أنشطتها الدبلوماسية بين كل جولة مفاوضات باتجاهات عدة دولية مع روسيا والصين، وإقليمية مع السعودية ودول الخليج ومصر، يهدف بالدرجة الأولى إلى الاحتفاظ بموقف هذه الدول المؤيد للمفاوضات، وأيضاً إلى تفكيك أي احتمال لمعارضة أي اتفاق قد تنتهي إليه المفاوضات مع واشنطن، ومن ثم السعي إلى تأمين أوسع ضمانة دولية وإقليمية لهذا الاتفاق في مواجهة المعترضين أو المتضررين.
إلا أن استبعاد دول الـ "ترويكا" الأوروبية بصورة مباشرة من الاتصالات الدبلوماسية الإيرانية كنوع من العقوبة السياسية والاقتصادية نتيجة عدم تعاونها في إطار اتفاق 2015 وتبنيها عقوبات اقتصادية ضدها، واكتفاء إيران بتمرير أجواء التفاوض لهذه الدول عبر أطراف أخرى، أي واشنطن.
ويضع المفاوض الأميركي أمام مهمة قد تكون معقدة في إقناع أو الضغط على دول الـ "ترويكا" بعدم الذهاب إلى مجلس الأمن بعد شهرين لتفعيل آلية الزناد الكفيلة بإحداث انكفاءة إيرانية قد تهدم ما يجري التوصل إليه من تفاهمات.
أما هذه التعقيدات المرتبطة بخطوط التفاوض وكيفية تسويقها بين الأطراف الدولية الأخرى المستفيدة والمتضررة منها فيبدو أن تعقيدات من نوع آخر، ترتبط بالساحة الداخلية لطرفي التفاوض، قد تشكل عائقاً أمام التوصل إلى اتفاق أو تعرقله، بخاصة داخل الإدارة الأميركية، نتيجة الضغوط التي تمارسها الجماعات التي تلتقي مع رغبات رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو والتي تدعو إلى التشدد مع إيران وحتى توجيه ضربة عسكرية لها، والتي بدأت تأخذ منحى تصاعدياً خلال الأيام الأخيرة، بخاصة بعد الإقالات التي حصلت لكثير من المستشارين في الـ "بنتاغون"، إذ أكد دان كالدول، وهو أحد كبار مستشاري وزير الدفاع، أن سبب إقالته لا يرتبط بتسريب معلومات وإنما نتيجة معارضته الهجوم على إيران، وإحراج الآراء الراسخة في السياسات الخارجية.
وفي المقابل فإن مركزية القرار في النظام الإيراني والتصدي المباشر للمرشد الأعلى لمسؤولية التفاوض سمح بإسكات الأصوات المعارضة للتفاوض والتي لا ترى أزمة في حصول مواجهة مباشرة مع واشنطن أو إسرائيل، حتى اعتبر أحد أقطاب التيار المتشدد حميد رسائي أن القدر القليل الذي يمارسونه في معارضة التفاوض يصب في إطار تحسين شروط الطرف الإيراني على طاولة التفاوض، أي أن هذا التيار تخلى، وإن في الظاهر، عن تهمة التخوين أو تضييع حقوق طهران عند الحديث عن ضرورة التسوية والمساومة من أجل الحفاظ على المصالح الوطنية والقومية، تحت سقف الشعار الذي رفعه المرشد الأعلى "الليونة الشجاعة".
وقد تكون الجولة الجديدة في مرحلتيها الفنية والسياسية (الأربعاء والسبت) مصيرية، لأنها سترسم مسار العلاقة بين الطرفين، وقد تساعد النتائج الإيجابية كل منهما في تسويقها داخلياً، في حين أن أي انتكاسة قد تحصل ربما تعيد عقارب الساعة للوراء وتضع المنطقة أمام موجة جديدة من التصعيد.
أندبندنت عربية