غزة تعيش حالة من الانتقال من مفاوضات إلى مفاوضات، على شاكلة حقبة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي دارت خلال العقود الماضية وبقي الوصول إلى الدولة الفلسطينية معلقاً بيد المفاوض الإسرائيلي، غير أنه في مأساة غزة هناك رضا من الطرفين ببقاء المفاوضات مفتوحة بغير زمن، ومرد ذلك أن قصة البقاء هي ما يشغل طرفي الصراع عن جوهر المفاوضات أمام مظلة النفاق السياسي التي يستظل بها الطرفان، حيث تظهر بعد كل جولة قصة التعديلات والمقترحات وتبديل المكان والزمان والخوض في جدلية الحل الجزئي والكلي، وصولاً إلى عملية إدارة انتقال المفاوضات نحو مفاوضات جديدة.
فالإشكالية وراء ذلك بات يعرفها حتى الرهبان الذين اعتزلوا البشر، فإذا انتهت الحرب سيدخل نتنياهو في قفص المحكمة، أمام رائحة الفساد التي تجاوزت الحد، خاصة بعد قضايا الرشاوى الأخيرة ودخول رئيس الشاباك ضمن دائرة الشهود، تماماً هناك أزمة حماس التي في حال تسليمها السلطة، تود الاحتفاظ بالسلاح لكي تمارس اختطاف غزة على شاكلة سلاح حزب الله الذي يريد الاستمرار باختطاف لبنان حتى ما وراء الليطاني، كما تريد حماس الإمساك بغزة ولكن من وراء الخيام، بما يترك وجع المدنيين متراس حماس وضمانة البقاء.
بالتالي لماذا يستعجل نتنياهو وداع المفاوضات طالما حلفاؤه من اليمين المتطرف يرون أن إعادة الرهائن ليست أهم مسألة، وفق ما قاله سموتريش. كما أن نتنياهو لن يكون مضطراً لتكرار قول الشريك، طالما هو يؤدي ذلك عملياً، فما دامت حماس لديها مقترحات جديدة تحتاج جولات وجولات، فلماذا لا يعطي مزيداً من الوقت لأجل نقاش هذه المقترحات، رغم أنه يدرك مسبقاً ما استراح عليه عقل حماس، ما يعني أن قاعدة التفاوض لأجل التفاوض تسير على ما يرام بالنسبة له، طالما هي تنتقل بالمفاوضات الدائرة نحو مقترحات جديدة، وحوارات ومزيد من الوقت.
ناهيك عن الخطة المتممة لخطة الجنرالات السابقة، والتي مسحت بموجبها أغلب جدران غزة، فهيئة البث الإسرائيلية تقول (إن الجيش بصدد إنشاء ما أطلقت عليه_ منطقة إنسانية_ في رفح حيث سيتم نقل المدنيين إليها بعد إجراء تفتيش أمني لمنع عناصر حماس من دخولها وستتولى شركات خاصة توزيع المساعدات).
وهذا يعني أيضاً وجود شركات أمنية خاصة للتفتيش والسيطرة على الأرض، وتدمير ما تبقى من وسط وشمال غزة وسوف تبرر إسرائيل ذلك بأنها أخلت المدنيين نحو الجنوب، وبالتالي حتى لو تمت صفقة الرهائن بالكامل فسوف يتحول سلاح حماس ذريعة نتنياهو لاستمرار الحرب، وهنا الجانب المحوري في المسألة، فالسلاح بين يدي حماس نقطة مفصلية في إيقاف الحرب، فهل تتخلى حماس عن السلاح إلى جانب صفقة الرهائن لسحب الذرائع، ما دام نتنياهو يريد مزيداً من مبررات الحرب التي تتركها حماس بين يديه يوميا.
فما لدى نتنياهو أنه يريد أن يمتد زمن الحرب بحيث ينتهي الأمر به اللاعب الأول في الشرق الأوسط لكي يقول "لا للدولة الفلسطينية"، وهو ما كرر قوله بالأمس، بينما حماس والتي تريد الوصول إلى ذات الهدف، فإذا كانت الدولة الفلسطينية هي في محطة القطار القادمة، فما تريده حماس هو اقتلاع سكة الحديد من جذورها احتراماً للأيديولوجيا المقدسة لديها وهو ما يعكس أهمية السلاح بالنسبة لفكرة ومعتقد حماس.
بالتالي ما هو المرجح القادم مع أفول سقف التوقعات واليأس من انتظار الخبر اليقين بين هذا وذاك، ما يعطي للشعوذة السياسية نشر كثير من الأساطير، فهل سيعثر الطرفان فعلاً على اتفاق جديد يكون غامضاً في جزئياته يبدأ بصفقة محدودة من التبادل مع تأجيل الاختلاف عليه فيما بعد، أم سيكون شاملاً لكنه داخل فانوس سحري لا يمكن الاطلاع عليه، بمعنى أنه ثمة مسافات بين توقيع القلم وسكون الرصاص، ومسافات أطول لكي تكون هناك ثمة صورة حقيقية يمكن للمشاهد أن يرى جدولاً زمنياً يذهب نحو وضع أوزار الحرب وأثقالها عن الناس الذين أرهقتهم ولا ذنب لهم سوى أنهم في المكان الذي تتصارع عليه تجارب الأيديولوجيا الإخوانية وأوهام اليمين المتطرف في تطويع العقل البشري.
غزة تبحث عن وقف كامل وشامل للحرب وعودة شريان الحياة فيها فكم ستنتظر اكتمال هذه الصورة، وكم من الضحايا الأبرياء يتناوبون على المشهد حتى ذلك الموعد، أمام "مفاوضات إدارة المصالح" التي وحدت طرفي الصراع ولم يسبق أن حدثت في التاريخ.
العربية