يبدو أن النظام الإيراني ومنظومة السلطة في طهران باتت مقتنعة بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المملكة في إعادة دمج إيران في المعادلات الإقليمية.
تكتسب الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المملكة العربية السعودية أهمية استثنائية هذه المرة، وتمايزاً واضحاً عن زيارته السابقة بداية ولايته الأولى.
هذه الأهمية لا تنبع فقط من كونها حملت مستوى جديداً من الاتفاقيات الثنائية بين واشنطن والرياض، وأنها تؤسس لمرحلة مختلفة من التعاون الثنائي بين الطرفين، بل بما تكشفه من ثقل الدور وأهمية الموقع المتقدم للمملكة في العالمين العربي والإسلامي وفي المعادلات الإقليمية ورسم المعادلات الجيوسياسية والجيواستراتيجية لمستقبل المنطقة.
البعد الاقتصادي الذي ظهر في الاتفاقيات التي جرى التوقيع عليها بين الجانبين السعودي والأميركي، لا تقتصر مهمته على الجانب الاستثماري، بل حمل رسائل سياسية متعددة الاتجاهات، سواء من خلال تأكيد موقع المملكة بتجاوب الرئيس الأميركي مع رغبة القيادة السعودية في إعطاء جرعة اقتصادية للسلطة السورية الجديدة وقرار رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، أو باستبعاد الخيار العسكري في التعامل مع الأزمة الإيرانية والتأكيد على تغليب خيار تشديد العقوبات الاقتصادية في حال فشل المفاوضات حول الملف النووي وعدم التوصل إلى حلول تعالج المخاوف والشروط الأميركية.
في المقابل، يبدو أن النظام الإيراني ومنظومة السلطة في طهران، باتت مقتنعة بصورة تامة بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المملكة في إعادة دمج إيران في المعادلات الإقليمية، وحتى في التأثير في القرار الأميركي وإدخال تغييرات على آلياته، بخاصة تلك المتعلقة بالموقف من إيران والتعاطي مع الملفات المطروحة على طاولة التفاوض، بهدف إبعاد المنطقة عن دائرة الخطر أو الدخول في حروب جديدة.
وتعزيز الثقة المتبادلة بين الرياض وطهران، يفترض بالأخيرة وقيادتها الانتقال إلى قراءة الإقليم وأحداثه وتطوراته بكثير من الواقعية السياسية، والتعامل مع المستجدات التي شهدها بكثير من الانفتاح والتعاون الذي يضمن تخفيف الآثار السلبية لتداعيات الأحداث والمتغيرات التي لحقت بحلفائها وأذرعها في المنطقة؟
والخطوة الأولى على هذا المسار، تكمن في الاعتراف الإيراني بتراجع نفوذه وقدرته على التحكم بالمسارات السياسية الجديدة، وبالتالي التأثير في المعادلات التي من المفترض أن ينتجها الواقع المستجد. ويبدو أن طهران وقيادتها، ومن خلال التمسك بالنافذة التفاوضية التي قدمتها الوساطة العمانية حول الملف النووي، قد اقتربت من الاعتراف بهذه الحقائق، وأن المرحلة تفرض عليها العمل من أجل الحد من التراجع وكبح مسار الخسائر التي ستكون على حساب الداخل الإيراني في حال لم تبدِ أي ليونة في التعامل مع الشروط الأميركية والهواجس الإقليمية ومصالح دول الجوار واستقرارها.
الخط الإيراني المعارض للمفاوضات، وحتى الخطاب الانتقادي الحاد للموقف الأميركي، والذي يمثله المتشددون أو الراديكاليون، بات مقتنعاً بحجم الخسارة التي لحقت بالمشروع الإيراني في الإقليم. وهذه القناعة تبرز من خلال التأكيد على أن ما تملكه إيران من قدرات وقوة لمواجهة الشروط الأميركية، يكمن بقدرة إيران على الالتفاف على العقوبات التي يهدد بها الرئيس الأميركي، مع غياب تام لاستعراض فائض القوة السابق والتهديد بإشعال المنطقة أو إقفال الممرات البحرية في مضيق هرمز وباب المندب.
هذا التراجع في تعريف مصادر القوة الإيرانية لم يعد حكراً على المتشددين المعارضين للتفاوض، بل تحول إلى موقف منظومة السلطة، التي تخلت عن خطابها التصعيدي في مواجهة الأميركي، وبات تركيزها منصباً على الدور الإسرائيلي المتأهب للقيام بعملية عسكرية ضد المنشآت النووية والعسكرية، منفرداً أو مدعوماً من واشنطن. وهذا التركيز لا يخرج عن مبدأ الردع وليس المبادرة في توجيه الضربة، أي أن أي اعتداء سيلاقي رداً إيرانياً قاسياً ومدمراً، بحسب آخر توصيف لقائد حرس الثورة الجنرال حسين سلامي، حتى إن المعادلة التي رسمها المرشد الأعلى بداية في مواجهة التهديدات الأميركية بضربة عسكرية، قامت على مبدأ "إذا ضربتم سنضرب"، بات هو الاستراتيجية الإيرانية ويكشف عن حجم المخاوف الإيرانية من أي حرب عسكرية قد تضعه في مواجهة تهديدات حقيقية تمس بقاءه واستمراره.
وأمام انهيار ما بنته طهران على مدى عقود، بخاصة في العقدين الماضيين، من ساحات نفوذ على مساحة الإقليم، وسعت لفرض هيمنة أحادية على منطقة من خلال رفع راية التصدي والمواجهة للمشروع الإسرائيلي لمنعه من فرض هيمنته ورؤيته التي من المفترض أن تكون عليها المعادلات في الإقليم، فإن طهران الآن تبحث عن آليات جديدة تضمن لها البقاء على خريطة المشاركة في رسم مستقبل المنطقة.
فالمشروع الذي قام على محاصرة إسرائيل بطوق من النار تولت مهمته الأذرع والقوى والدول المتحالفة معها تحت مسمى "محور المقاومة"، ليكون السد الذي يقطع الطريق على أي إمكانية لاستهداف الداخل الإيراني أو فرض معركة مباشرة معها، لم يكن فيه مكان لشركاء إقليميين آخرين، ومحاولة تكريس ثنائية الحل الأميركي- الإيراني، من خلال التأكيد لواشنطن أن أمن تل أبيب وضمانات الاستقرار تمر عبر الاعتراف بالدور الإيراني ونفوذه في الإقليم، والقبول به شريكاً مباشراً ولاعباً أساسياً وصاحب الحصة الأكبر مع حلفائه.
إلا أن ما شهدته المنطقة من تطورات انتهت أو بالحد الأدنى تعرضت لضربة مزعزعة لم تعد تسمح لها بتوظيف ما كانت تملكه من أوراق قوة على طاولة أي مفاوضات كانت تراهن على عقدها مع الجانب الأميركي. وبالتالي فرض على طهران إعادة النظر في كل استراتيجياتها والتعامل مع الحقائق الجديدة برؤية مختلفة.
تسارع الخسائر وحجم تأثيرها في أوراق إيران الإقليمية، إضافة إلى تراكم الأزمات الداخلية نتيجة العزلة السياسية والاقتصادية التي يعاني منها النظام، وضعت النظام وقيادته في موقف حرج أجبره على وضع ورقة البرنامج النووي الأخيرة على طاولة التفاوض. بالتزامن مع إعادة النظر في استراتيجية تعامله مع محيطه، وتحديداً الخليجي، والذهاب إلى مستويات من التعاون لم يكن في وارد التفكير بها سابقاً. وتحولت معها ضرورة وحتمية ترميم العلاقة مع الجوار الخليجي وتعزيز الثقة معه إلى خيار مصيري لمواجهة الضغوطات التي يتعرض لها، لوقف المسار التراجعي الذي يعيش فيه بعد خسائره الإقليمية.
إعادة النظر الإيرانية في استراتيجيات تعامله مع الإقليم، اقترنت مع نظرة عربية وخليجية بقيادة سعودية مختلفة عن الماضي، عندما كان منسوب انعدام الثقة في أعلى مستوياته من الطموحات الإيرانية، ترجمها الموقف من أي اتفاق نووي جديد بين طهران وواشنطن، إلا أنها نظرة لا تزال تأخذ بالاعتبار ما تبقى من قدرة طهران على التخريب. وبالتالي فإن جهود استيعاب طهران في حالتها الجديدة قد لا تستثني أي جهود لإشراك النظام الإيراني في أية تسوية قد تحصل في الإقليم، والتي بات النظام على استعداد للتعامل معها بواقعية كبيرة قد تصل حد التنكر للكثير من مواقفه الأيديولوجية التي بنى عليها سياساته واستراتيجياته السابقة.
أندبندنت عربية