زيارة ترامب للسعودية.. الأبعاد والدلالات الإستراتيجية

في أول زيارة خارجية له منذ انتخابه، اختار ترامب أن تكون للسعودية، ضمن جولة خليجية تشمل قطر والإمارات. واختياره للسعودية كأول دولة خارجياً في سيناريو مكرر تم في ولايته الأولى؛ يعكس في طياته أبعادا ودلالات استراتيجية تتجاوز بأشواط ما يتردد دائما عن حجم الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع المقبلة.

بادئ ذي بدء، يأتي اختيار ترامب للسعودية للمرة الثانية كأول محطة خارجية له، لتأكيد درجة النفوذ والأهمية الإقليمية والدولية التي غدت تتمتع بها السعودية والآخذة في النمو المطرد، وهذا في حد ذاته دلالة قوية أيضا لتحول كبير في نمط التحالف الأمريكي السعودي؛ إذ باتت أقرب إلى تحالف متوازن تتساوى فيه المصالح والقوة، والأهداف الاستراتيجية لترامب من زيارة السعودية تؤكد ذلك بجلاء.

يأتي تأمين الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة في مقدمة أولويات هذه الزيارة تماشيا مع تفضيلات وأولويات ترامب الاقتصادية، ومن ثم، غدت السعودية على وجه التحديد عاملا حاسما لازدهار الاقتصاد الأمريكي المترنح. لكن لا يقف الأمر عند حد المصلحة الأمريكية؛ فتلك الاستثمارات - وليست الهبات المجانية كما أراد ترامب في البداية - التي ستركز على قطاعات حيوية خاصة القطاع التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، سيكون مردودها المالي والاقتصادي والسياسي للسعودية شديد الرحابة، وربما ستكون البداية لرهن الاقتصاد الأمريكي بالإرادة السعودية على المدى البعيد.

ويمثل ملف الحرب الأوكرانية الأولوية الاستراتيجية الثانية للزيارة، وتلعب السعودية منذ اليوم الأول لترامب في البيت الأبيض دور الوسيط الرئيسي لإنهاء الحرب، وهذا ينم عن ثقة ترامب وبوتين الواسعة في السعودية كوسيط قوي قادر على حل النزاعات الدولية، وربما أكثر موثوقية من أطراف أخرى أكثر ارتباطاً بالصراع. ومن المتوقع أن تستضيف السعودية لقاء بين بوتين وترامب لإنهاء الحرب، كدلالة على نجاح الجهود السعودية العلانية والسرية لتوصيل وجهات النظر وتذويب عوامل الخلاف. لكن الأهم من ذلك، يعتقد ترامب في قدرة الرياض على الضغط على بوتين لتقديم بعض التنازلات بسبب العلاقات الوثيقة بين الجانبين، وبالمثل بوتين. والشاهد في الأمر، أن مواصلة السعودية لجهود وساطتها في واحدة من أخطر القضايا الشائكة في العالم، تعزز سمعة المملكة كوسيط قوي نزيه في الصراعات الدولية.

تشكل السعودية أيضا لترامب لاعبا أساسيا في عملية إعادة ترتيب المنطقة التي تجرى الآن في خضم التقهقر الإيراني وحلفائه، وسوريا الجديدة، وحرب غزة وما بعدها، والصراع في السودان، والوضع الجديد في لبنان.. وغيره. وترامب في ضوء عدم تركيزه القوي في المنطقة كاتجاه أمريكي عام، يرى في السعودية الحليف القوي ذا النفوذ المتسع القادر على حلحلة تلك القضايا خاصة حرب غزة، وان تكون رأس الحربة في إعادة ترتيب المنطقة خاصة الوضع في سوريا. ومن جهتها، ترى السعودية أن الفرصة سانحة لتعظيم قيادتها في المنطقة بعد التراجع الإيراني ودخول تركيا على خط المنافسة.

وترامب أيضا في حاجة ماسة للسعودية في ملف النفط من حيث ضبط الأسعار والإنتاج عالميا وفقا لتلاقي المصلحتين الأمريكية والسعودية، فالأخيرة قد برهنت منذ الحرب الأوكرانية نفوذها الأعظم على سوق النفط العالمي، وتوظيف دبلوماسيتها عالميا لترتيب سوق النفط العالمي خاصة حجم الإنتاج.

وأخيراً، ستظل السعودية لواشنطن وترامب تحديداً عاملا شديد الحسم في إطار الصراع الأمريكي الصيني، فتقارب السعودية مع الأخيرة لا يضعف واشنطن في المنطقة فحسب، بل سيصب في خانة القوة الصينية على حساب القوة الأمريكية عالمياً خاصة الاقتصادية.

خلاصة القول، بغض النظر عن تراجع الاهتمام الأمريكي في المنطقة، وطبيعة الإدارة الحاكمة في البيت الأبيض، كانت ولا تزال السعودية من الاستثناءات المحدودة التي لا تزال تشكل أهمية استراتيجية حيوية لواشنطن، وتترسخ هذه الأهمية لتعكس في طياتها أبعادا ودلالات استراتيجية عميقة، يأتي على رأسها التنامي المطرد لمكانة ونفوذ السعودية دوليا وإقليميا.

القبس

يقرأون الآن