العجز عن ترسيخ فكرة التفوق الأيديولوجي والعسكري، أمران يصلان اليوم إلى نتيجة واحدة، ففي الأولى كانت ثمة صورة ذهنية صنعها ذكاء مُتخيل للأيديولوجيا في عالم لم يعبر عليه زمن، وفي الثانية جاءت محاولة سلب المنطقة عناصر القوة وهو ما تلاعبت فيه المصالح السياسية، لكي يصبح واضحاً للعيان أن هدف الروايتين يتعلق بمحاولة الفرار من الاستحقاق السياسي فحسب، وبالتالي ذهبت الفكرة الإسرائيلية نحو الاستثمار في الأماكن الهشة انطلاقاً من قصة الهواجس الأمنية، وهي التي تغذي مفهوم التفوق العسكري المطلوب، وهذا لا يتطلب وفق العقلية الإسرائيلية امتلاك عناصر القوة بقدر ما يتطلب عسكرة الشارع من خلال إحاطته بفكرة الرعب، والهدف المرجو إقناع الشارع الإسرائيلي أن منح الفلسطينيين الاستحقاق السياسي المطلوب سيشكل خطورة أمنية على إسرائيل، ما يعني دفع الشارع الإسرائيلي نحو تبني نظريات اليمين، لمنع قوى الاعتدال السياسي من الصعود.
هنا بالضبط فتحت إسرائيل الباب لتعزيز قوة حماس أمام نظر العالم، وخنقت السلطة، وبالفعل جاء السحر تماماً على مقاس الساحر، فقد انقلبت حماس على السلطة وانقلبت على إسرائيل غير أنه الانقلاب الذي يؤدي نتيجة السحر المرصود، وخلاصته الهروب من الاستحقاق السياسي، ولم ينس نتنياهو أن يستعرض أسطورة التفوق والتي يترجمها في حربه على سبع جبهات، كما لم ينس أن يصر على استخلاص قوة حماس غير أن ذلك وفق نظرية إعادة التدوير. بينما ما يجري على الأرض متعلق بالإنسان والأرض، وبالتالي إن التجسيد المادي للرواية الإسرائيلية يصل في نهاية المطاف بمثابة تحويل الاستحقاق السياسي ليصبح مستحيل الحدوث، فما بين غزة التي لم تصل حتى إلى وقف الكارثة الإنسانية، وصولاً إلى الضفة الفلسطينية التي تتآكل تربتها على وقع الاستيطان الذي يريد امتصاص كل مكوناتها، في عملية قهر يومية تختفي فيها القدرة الشعبية على المزاحمة حتى بالحدود السلمية، في حرب متعددة مفتوحة عنوانها أمني بامتياز، وتفاصيلها سياسية بحتة. تتساءل فيها لغة الأمن كيف دخلت الأسلحة إلى الضفة التي تحيط بها إسرائيل من كل جانب، وهو ذات السؤال الذي ظهر في غزة، لكن نتائجه كانت في غزة أكثر وضوحاً، بينما هو في الضفة يقترب ببطء من الكارثة، فهو في النهاية سلاح خارج إطار السلطة الشرعية، وبالتالي إن من يسمح بدخول السلاح يعرف توقيت الرصاص المستخدم فيه وكيفية الاستفادة منه.
هنا تكون حاجة إسرائيل إلى طرف فلسطيني يساعدها على إثبات نظرية الهواجس الأمنية، من خلال صناعة معركة، فقد استثمرت إسرائيل الانتفاضة الثانية لبناء الجدار العازل والطرق الالتفافية التي أكلت آلاف الدونمات، وأخذت غزة نحو كتلة من الركام والموت، وما بعد غزة سوف تستمر العين الإسرائيلية على الضفة، وبالتالي إن كل الأطراف الفلسطينية التي تصنع معركة صغيرة أو كبيرة هي في النهاية تقدم خدماتها لليمين المتطرف ليعزز روايته، وبالمقابل تزيد من الضغط على الشارع الفلسطيني، لكن النتيجة الأكبر والتي تختفي خلفها إسرائيل أن هذا يبرر لها عدم الذهاب إلى الاستحقاق السياسي، فإسرائيل ترفض الدولة الفلسطينية، وبالتالي إن سلاح حماس وشركائها في الضفة تحت مسمى المقاومة لم يسهم مطلقاً بتحقيق معادلة الأمن الفلسطينية، لكنه أسهم بمزيد من التهجير والاستيطان، ويسهم اليوم وغداً في تحويل الدولة الفلسطينية إلى حلم بعيد.
قيمة المقاومة الحقيقية في أي مجتمع بشري هي عندما تنجح في إسقاط نظرية الخصم وأن لا تعمل على تعزيز نظريته، وبالتالي إن مأثرة أوسلو أنها أسقطت الفرضية التي قامت عليها إسرائيل طوال العقود الماضية، المتمثلة بأن الفلسطينيين ليسوا شريكاً في أي عملية سياسية، وهو ما كانت تبرر فيه سنوات الاحتلال الطويلة، بينما أسقطت حماس هذا المفهوم، وبالتالي ما تقوله إسرائيل علناً اليوم، إنما هو ناتج عن عملية التخادم بين حماس من جانب، وبين شركاء حماس الذين في خطابهم الشعبوي ينعشون فكرة إزالة إسرائيل في الذاكرة السياسية في الغرب، ما يصب حتماً في مصلحة إسرائيل التي تطالب أولاً بالذهاب نحو تعزيز فكرة تفوقها العسكري، ما يجعل فكرة الاستثمار في الحرب هي المادة المتوفرة على طاولة السياسية الإسرائيلية، وهو ما يعزز من بقاء اليمين وولادة حكومات يمينية لا تتبنى نهجاً سياسياً، لكن الخاسر الأكبر هو الشعب الفلسطيني.
من يعزز من وجود اليمين الإسرائيلي هو من يعطيه مبررات البقاء، وبالتالي القضية الفلسطينية لا تحتاج صواريخ بعيدة ولا قريبة المدى ولا تحتاج شعارات ولا خطابات شعبوية.
العربية