يدور سؤال تاريخى تقليدى يردده المصريون كثيرًا والأشقاء العرب أحيانًا، ذلك أن مصر تمتلك مقومات الأمة وحدها رغم أنها جزء من أمة عربية كبرى، وهنا لابد أن نشير إلى أن خصوصية الجزء لا تمنع الانتماء إلى الكل، ومصر هى ابنة الجغرافيا وحفيدة التاريخ، وعندما أقام المؤرخ الجغرافى العظيم جمال حمدان نظريته الخاصة عن الأرض والسكان فى مصر اعتمد على فرادة الموقع التى صنعت خصوصية التاريخ، ومازلت أتذكر دائمًا حوار الأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث الثانية مع سفير مصر الراحل فى لندن كمال الدين رفعت عام 1971 عندما سأل الأمير البريطانى السفير المصرى عن الاسم الرسمى للدولة المصرية حينذاك فأجابه كمال الدين رفعت - رحمه الله - أن الاسم الرسمى هو «الجمهورية العربية المتحدة» فاستهجن الأمير التسمية واعتبرها التفافًا على الاسم التاريخى العريق «مصر»، وبعد ذلك بعام أو أكثر كان للأمير لقاء آخر مع أعضاء السفارة عندما سألهم السؤال مرة أخرى فأجابه السفير أن الاسم الرسمى للدولة -عام 1972 - هو جمهورية مصر العربية بعد صدور الدستور الجديد، عندئذٍ ابتسم الأمير فيليب قائلاً: يجب ألا يختفى اسم مصر أبدًا انه جزء مهم من تاريخ الحضارة البشرية، وقد كنت أتعفف شخصيًا بحكم انتمائى القومى للعروبة من استخدام تعبير «الأمة المصرية» على اعتبار أنها جزء من الأمة العربية، وذات صباح كان العماد إميل لحود يلقى خطاب القسم لولايته الجديدة لرئاسة الجمهورية اللبنانية واستمعت إليه وهو يستخدم تعبير "الأمة اللبنانية" أكثر من مرة فى خطبته الافتتاحية لفترة حكمه فى بلده الشقيق، وعندئذٍ قلت لنفسى لقد رفعت الأقلام وجفت الصحائف وقد زال الحرج ولا بأس من استخدام تعبير الأمة المصرية، فالأمة اللبنانية التى لايزيد عدد سكانها على عشرة ملايين فى الوطن والمهجر تستخدم ذلك التعبير، فمابالك بمصر التى تجاوز عدد سكانها المائة مليون ويكون حرامًا عليها استخدام تعبير الأمة المصرية، وهى الدولة التى تملك مقومات ذلك التعبير تاريخيًا وثقافيًا وجغرافيًا وبشريًا، فالزمان والمكان والسكان يصنعون من مصر أمة متجانسة لا تعرف الطائفية ولا الجهوية ولا تنظر إلى تاريخ الأعراق والهجرات التى شهدتها تلك المنطقة، وكل ذلك لا يتعارض على الإطلاق مع الانتماء العربى لمصر وتكريسه دائمًا، وليتذكر الجميع أن العروبة فى مصر مرتبطة بالفتح الإسلامى، كما أن تأكيد تلك العروبة مرتبط بالعصر الفاطمى عندما أصبحت اللغة العربية هى اللغة الأولى للبلاد والعباد، وأضحى الإسلام دين الغالبية من أبناء مصر القبطية، وتأصلت من ذلك الحين رابطة العروبة فى الكيان المصرى وسقط السؤال التقليدى – الذى لا يخلو من خبث أحيانًا – حول الهوية المصرية وارتباطها بالكيان العربى الكبير الممتد من حوض البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى حوض النيل جنوبًا ومن حدود بلاد فارس شرقًا إلى انتهاء سلسلة جبال الأطلسى غربًا، وعندما ظهرت الناصرية بإشعاعها المؤثر فى المنطقة أضافت مصر إلى العروبة الثقافية التى ترفع لواءها عروبة سياسية تناضل من أجلها، وبذلك لم يعد للتعبير التقليدى حول عروبة مصر موضع من الإعراب، وانصهرت مصر فى أتون أمتها العربية ودافعت عن قضاياها وتمسكت بالثوابت المرتبطة بحقوق شعوبها فى كل وقت فأصبح تعبير الأمة المصرية موازيًا لدى المصريين لتعبير الأمة العربية الذى سيطر على وجدان المنطقة فى القرنين الأخيرين منذ صحوة المصريين على مدافع نابليون فتذكر الجميع عروبة مصر وقبطية مصر وإسلام مصر والبوتقة التى لا يخبو نورها أبدًا. فلقد أدرك الجميع أن الدولة التى حملت مصابيح النور سوف تظل دائمًا تدفع بالشعلة إلى الأمام، لا تصرفها عن مبادئها بعض الأوهام ولا تبتعد عن ثوابتها ببعض الأحلام، فالعروبة كما قال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر (قدر ومصير وحياة) ويجب ألانتراجع أبدًا عن الدور الإقليمى لمصر والمجال الحيوى لوطن ليس ككل الأوطان، فهو قائد الحروب وزعيم السلام وداعية الاستنارة والنهضة فى هذه البقعة المؤثرة من العالم، وإذا كانت هناك أخطاء تاريخية كبيرة وهزائم ضخمة ونكبات ونكسات وتضحيات إلا أن الدولة المصرية تقف شامخة أمام الرياح السامة عصية على محاولات الإسقاط وسوف تظل سبيكة فريدة فى تاريخ الأمم والحضارات والشعوب.
بوابة الأهرام