تزخر البيئة الغربية، بحكم طبيعتها الداعمة للبحث العلمي والابتكار، بعشرات بل مئات من العلماء والباحثين من اصول عراقية، ممن اثروا ميادين شتى باكتشافاتهم ونظرياتهم التي تقدم البشرية وتحل مشكلاتها. ومع ذلك، وفي مفارقة مؤلمة، يبقى هؤلاء النجوم المهاجرة طي الكتمان في وطنهم الام، لا يكاد يذكرهم احد او يحتفي بانجازاتهم العظيمة.
هذه الحقيقة القاسية تضعنا امام تساؤل جوهري: لماذا يهمل العراقيون هؤلاء الكفاءات الفذة، وقلما ما نسمع او نقرا عنهم وعن انجازاتهم، بينما تكال عبارات التقدير والاحتفاء، بل والتجميل، لشخصيات سياسية في المهجر. ان هذا الاهمال ليس مجرد نسيان عابر، بل هو اغفال لثروة وطنية حقيقية، وتهميش لمصدر فخر لا يضاهيه اي منصب سياسي او جاه زائل.
لطالما ظل العراقيون، بحسب ما تشير اليه ملاحظة احد الاصدقاء، مفتونين بالسلطة والجاه والمنصب. هذا الافتتان يتجلى بوضوح في مقاييس التقدير والاعتراف التي يتبناها المجتمع. ففي الغرب، حيث التنافسية عالية ومتطلبات المنصب شديدة، ايهما اصعب واكثر مشقة وجهدا: المنصب الذي ياتي عبر حزب فائز بالانتخابات، او المنصب العلمي والتميز باكتشاف او نظرية تقدم البشرية وتسعدها وتحل مشاكلها؟ الاجابة البديهية ان الانجاز العلمي الحقيقي يتطلب سنوات من الجهد المضني والبحث الدقيق والمثابرة والتفاني، وغالبا ما يكون الهدف الاسمى منه هو خدمة الانسانية جمعاء، وليس فقط تحقيق مكاسب شخصية او حزبية.
ان المنصب السياسي، وان كان يتطلب جهدا، فانه غالبا ما يكون مرتبطا بعوامل مثل الشعبية والعلاقات والقدرة على المناورة السياسية، والتي قد لا ترتبط بالضرورة بالقدرة على بناء المجتمعات وتقدمها. ومع ذلك، تتجلى المفارقة المؤلمة في مجتمعاتنا بان العلماء العراقيين الحقيقيين، الذين يكدون وينتجون في صمت، لا يحظون بالذكر او التقدير الذي يستحقونه، فهم لا يسعون خلف الاضواء بل خلف الحقيقة والابتكار.
في المقابل، لا نكاد نسمع او نقرا عنهم وعن انجازاتهم الا اذا كانوا محتالين وادعياء كمثل مكتشفي دواء للسرطان او اكتشاف يهز صرح العلم. هذه الظاهرة تعكس خللا عميقا في اليات التقدير لدينا، حيث ينجذب الجمهور نحو العناوين المثيرة، حتى لو كانت زائفة، بينما تهمل الجهود العلمية الرصينة والموثوقة.
ان العلماء الحقيقيين، على عكس السياسيين الباحثين عن السلطة والجاه، هم من يبنون حقا مجتمعات المستقبل. انهم يساهمون في تقدم الطب والهندسة والتكنولوجيا والفنون، ويدربون اجيالا جديدة من العقول لتواصل مسيرة البناء والابتكار. وبينما يجهد هؤلاء ويبذلون قصارى جهدهم لتقديم اضافة نوعية للبشرية، نجد ان الاهتمام ينصب على شخصيات سياسية. ان هذا التحيز يضع العراق في موقف لا يحسد عليه، فبدلا من الاحتفاء بمن يرفع راية العلم والتقدم، نجد انفسنا نتجاهلهم لصالح اشكال اخرى من "الانجاز" غالبا ما تكون سطحية او حتى ضارة.
لقد اصبح اسم المعمارية العراقية العالمية الراحلة زها حديد ايقونة للانجاز والتميز، وبحق. فاعمالها الفنية والهندسية غيرت وجه العمارة العالمية، ومنحت العراق فخرا لا يمحى. ولكن، يبدو ان ما لم يكن بمنزلة زها حديد او بانجازاتها، فهو لا يستحق التقدير الذي يحظى به شخصية سياسية عراقية في المهجر، سواء كان له انجاز حقيقي او بدونه. هذا المعيار، وان كان يهدف الى تسليط الضوء على عظم انجازات زها حديد، فانه يكشف عن مشكلة اعمق في مقاييس التقدير لدينا.
ان حصر التقدير في "ايقونات" عالمية بهذا الحجم، مع تجاهل عشرات او مئات الانجازات العلمية والبحثية الاخرى التي قد لا تكون بنفس البريق الاعلامي ولكنها لا تقل اهمية وتاثيرا في مجالاتها، هو اجحاف بحق عدد كبير من العلماء العراقيين. هؤلاء العلماء قد لا يبنون صروحا معمارية، ولكنهم يكتشفون ادوية منقذة للحياة، او يطورون تقنيات حديثة، او يقدمون نظريات جديدة تغير فهمنا للعالم. والادهى من ذلك، ان هذا المعيار المتشدد للتميز العلمي يقابل بتساهل غريب في تقدير الشخصيات السياسية. هذه المعايير المزدوجة تحرم العراق من الاحتفاء بقاعدة واسعة من العقول المبدعة، وتوجه رسالة سلبية مفادها ان السياسة، حتى وان كانت مشوبة بالفساد، قد تحظى بتقدير اكبر من العلم والتفاني في خدمة البشرية.
علماء العراق في المهجر ليسوا مجرد افراد ناجحين في بيئاتهم الجديدة، بل يمثلون ذخر العراق الحقيقي وفخره المستدام. انهم سفراء صامتون لقدرات العقل العراقي على الابداع والابتكار، وانجازاتهم تضيء دروب التقدم البشري. ان الاوان لان نغير نظرتنا، وان نخرج من غواية المناصب السياسية الزائلة الى تقدير الانجازات العلمية الخالدة.
يجب ان نفهم ان التقدم الحقيقي لاي امة يبنى على سواعد علمائها ومفكريها، وليس على تقلبات المشهد السياسي. لذا، فاننا ندعو الى ضرورة انصاف العلماء العراقيين في المهجر. هذا الانصاف لا يعني فقط مجرد ذكر اسمائهم، بل يتطلب جهودا منظمة لتوثيق انجازاتهم، وتسليط الضوء عليها في وسائل الاعلام والمنصات التعليمية، وتنظيم فعاليات لتكريمهم، وربما حتى انشاء جسور للتواصل والتعاون بينهم وبين المؤسسات التعليمية والبحثية داخل العراق. الاحتفاء بهؤلاء العلماء سيغرس الأمل في نفوس الأجيال الشابة داخل العراق، ويلهمهم للسير على خطاهم في دروب العلم والمعرفة، بدلا من الانجراف نحو بريق المناصب الزائلة. فالعراق لن ينهض ويستعيد مكانته الا بتقدير ورفع شأن عقوله، اينما كانت. انهم كنز العراق الاغلى، ومصدر فخره الذي يجب ان يزهو به امام العالم.