في مشهد إعلامي ساخر يعكس تحولات المزاج العام بعد سقوط النظام السوري وانسحاب الميليشيات الإيرانية من البلاد، نشر الإعلامي فيصل القاسم، مقدم برنامج "الاتجاه المعاكس" على قناة الجزيرة، صورةً ساخرة من إحدى حلقات برنامجه، ظهر فيها إلى جانب ضيفين أحدهما وُسم بإيران والآخر بإسرائيل، بينما كتب على لسانه: "يا أخي يقول إنه يريد أن يقصفك بالنووي، ماذا ترد؟"، في إشارة إلى الصراع المتصاعد بين الجانبين، ووضع السوري في موقع المتفرج.
ولم يكن منشور القاسم حدثاً منفصلاً، بل جاء ضمن موجة من المنشورات والتعليقات التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر من خلالها سوريون عن ارتياحهم لخروجهم من معادلة "الممانعة" القسرية، التي لطالما زجّهم بها نظام الأسد، وإعلانهم حياداً ساخراً تجاه الحرب المستعرة بين إسرائيل وإيران. فبعد عقود من الخطاب الرسمي الذي صوّر إيران كحليف في "محور المقاومة" وإسرائيل كعدو أبدي، يرى كثير من السوريين اليوم أن هذه الحرب لا تمثلهم ولا تعنيهم، وأنهم ليسوا سوى ضحايا قدامى لصراع لم يكن يوماً خيارهم.
حياد شعبي بوجه ساخر
وتداول ناشطون بحسب المدن مقاطع فيديو لسوريين يجلسون على شرفات منازلهم أو في المقاهي، يحتسون القهوة ويدخنون الشيشة، وينظرون إلى السماء، التي تظهر فيها الصواريخ المتبادلة بين إيران واسرائيل، ويقولون بسخرية: "نحن فقط متفرجون"، "نحن مع أحمد الشرع ومع الله، لا علاقة لنا بهذا الصراع"، في إشارة رمزية إلى انقضاء زمن الاصطفاف، وتحول السوري إلى مراقب للأحداث التي كانت تفرض عليه قسراً.
وذهب بعضهم إلى السخرية من اسم العملية الإسرائيلية الأخيرة التي حملت عنوان "الأسد الصاعد"، إذ تداولوا صورة لبشار الأسد أثناء نزوله من الطائرة، وأرفقوها بتعليق: "ربما على إيران أن تسمي ردها: الأسد النازل"، في إشارة مزدوجة إلى السخرية من سقوط النظام، وتهاوي مكانة الأسد الإقليمية حتى في أعين داعميه السابقين.
الإعلام السوري يتفرّج
وفي ما يبدو تناغماً مع المزاج الشعبي، اختار الإعلام الرسمي السوري بدوره موقع الحياد، مكتفياً بتغطية الأخبار عبر نقل تصريحات دولية أو تقارير غير تحليلية، من دون انحياز واضح لأي طرف. بل على العكس، استضافت بعض القنوات ضيوفاً في نشراتها الإخبارية وبرامجها الحوارية، أكدوا أن كلاً من إيران وإسرائيل عدوان لسوريا، وأن قتالهما خارج الأراضي السورية يعد "أمراً جيداً"، لأنه يجنب البلاد مزيداً من الدمار.
من الاصطفاف إلى النأي بالنفس
هذا التحول اللافت في الخطاب الشعبي والإعلامي، يتقاطع مع رؤية متزايدة في أوساط السوريين ترى أن البلاد دمرت بفعل صراعات إقليمية استخدم فيها النظام الأراضي السورية كساحة بالوكالة، من دون أن يمتلك الشعب أي قرار في خوضها أو توقيتها أو ثمنها. ولذلك، تأتي هذه الموجة من المنشورات الساخرة كمؤشر رمزي على تحرر نفسي ومعنوي من خطاب "الممانعة"، الذي لطالما ارتكز على العداء لإسرائيل والتبعية لإيران، في وقت كانت فيه الأخيرة تقصف المدن السورية، وتشارك في حصار وتجويع السوريين.
في المقابل، عبّر بعض السوريين عن موقف مغاير، مؤكدين أن الخلاف مع إيران انتهى بسقوط نظام الأسد، لكن العداء مع إسرائيل لا يزال قائماً بوصفها العدو التاريخي، واعتبروا أن تصاعد الضربات الإسرائيلية على سوريا بعد انهيار النظام يمثّل استباحة مرفوضة للسيادة الوطنية. وكتب أحد المدونين: "بعد سقوط النظام، الدولة الوحيدة الي عملت أجواء سوريا مسبح ومكان للنزهة هي إسرائيل.. القصف الي قصفته إسرائيل لسوريا بعد سقوط النظام يساوي كل الغارات الي ضربتها لسوريا من 48 لليوم".
وبينما تتساقط صواريخ تل أبيب وطهران في صراع مفتوح، يختار معظم السوريون، ولو على سبيل السخرية، أن يرفعوا فنجان القهوة عالياً، لا للدعم أو التشفي، بل كموقف سياسي وشعبي يقول بوضوح: هذه لم تكن حربنا، ولن نكون وقودها بعد الآن.