ليس جديدًا أن تتوقف حرب أو مواجهات عسكرية ويعلن كل طرف انتصاره مثلما حدث مؤخرًا فى حرب إيران وإسرائيل، وبقليل من المراجعة التاريخية سنكتشف أن أغلب حروب العدوان الإسرائيلى فى المنطقة تنتهى بهذه الطريقة.
وليس جديدًا أيضًا أن التاريخ كان حافلًا بتطورات متعاكسة وليس بالضرورة فى اتجاه واحد، وأن العالم كان دومًا معقدًا، ولكن ربما لا يختلف أحد اليوم فى أن العالم أكثر تعقيدًا وتشابكًا من العصور السابقة، وربما حتى بالمقارنة بعقود قريبة.
ولو عدنا قليلًا إلى الخلف وتوقفنا عند الغزو الأمريكى للعراق، عندما خططت واشنطن ليس فقط لاستنزاف ثروات العراق وتحويله إلى كيان تابع، فقد أسفر هذا بعد سنوات قليلة إلى نشوء ترتيبات وأوضاع معقدة، صب الكثير منها لصالح بناء نفوذ إيرانى فى العراق وليس أمريكيا، ورغم التطورات الأخيرة المتضمنة تقليص نفوذ طهران إقليميًا، وهو تقليص قد يستكمل أو لا يستكمل فى المرحلة المقبلة، ولكن ما هو واضح حتى الآن أن واشنطن نجحت فى إضعاف وتهميش العراق إقليميًا، ولكنها لم تنجح فى بناء نموذج تبعية قابل للاستمرار.
وربما كانت الحرب الأوكرانية نموذجًا فذًا لفكرة الدلالات والنتائج المتعاكسة، من أبرزها أن مسألة محاولة روسيا منع تمدد حلف الأطلنطى بالقرب من حدودها، والذى كان أبرز عناوين الحجج الروسية على لسان قادتها وإعلامها قد أسفر فى الأجل القصير عن انضمام السويد وفنلندا لحلف الأطلنطى، حتى لو كانت قد تمنع كييف من هذه الخطوة فى المستقبل، وحتى هذه لم يسقطها الرئيس زيلينسكى وبعض القادة الأوروبيين تمامًا حتى الآن، وإن كان يسود اعتقاد واسع بأنها غالبًا ستشكل عنصرًا جوهريًا من شروط التسويات النهائية التى ستأتى يومًا ما.
ومن بين النتائج المتعاكسة لهذه الحرب نمو مشاعر الخوف من روسيا وتعزيز وحدة حلف الأطلنطى التى كانت مزعزعة ومرتبكة، وهى الوحدة التى وصلت ذروتها فى عهد إدارة بايدن، ثم اهتزت بعض الشىء فى بداية ولاية ترامب، ولكنها عادت بدرجة كبيرة فى الأسابيع الأخيرة.
ولكن ثمة تطور آخر ربما تزيد أهميته وهو دعوة ترامب منذ ولايته الأولى لتحمل أوروبا وحلفائه جميعًا مزيدًا من الأعباء الدفاعية، ونجح بالفعل فى ولايته الثانية الحالية فى فرض هذه الزيادة إلى ٥٪ فى اجتماعات الناتو الأخيرة، والتى بدا فيها مستكملًا مظهره كالمتحكم الأول فى التحالف الغربى، وحصل فى هذه الاجتماعات على الكثير من المجاملات والإطراءات التى يستمتع بها من حلفائه وتجعله يحقق طموحه فى محاولة استعادة الهيمنة الأمريكية على العالم وتحويل الحلفاء إلى مجرد اتباع يأتمرون بأمره وتعليماته.
ولكن لهذه النتيجة أوجه أخرى تؤكد فكرة النتائج المتعاكسة والتطورات التاريخية التى تتضمن مفهوم السياق الذى ينشئ تحولات ليست بالضرورة فى نفس الاتجاه الذى أراده ترامب، فبناء أوروبا أقوى وبشكل خاص ألمانيا أقوى وأكثر اعتمادًا على الذات وقادرة على حماية حدودها ومكانتها فى بناء عالم أكثر تعددية فى الأجل المتوسط أو الطويل وليس عالم القطب الواحد الذى يريد ترامب ترسيخه باستعلاء غير مسبوق فى العالم الحديث.
ومن الضرورى أن نفهم معنى هذا بشكل واسع يتجاوز مسألة فكرة عودة التوجهات القومية الألمانية الطموحة التى يحلو للبعض أحيانًا طرحها ويتصورون هذا أيضًا بمناسبة ظهور الحالة الروسية التى يعبر عنها بوتين، وكذا الفكر الإمبراطورى الأمريكى الذى يمثله ترامب حاليا والنزعات الإمبراطورية لقوى متوسطة كإيران وتركيا وإسرائيل، فقد تحدث عودة لهذه التوجهات أو لا تحدث لأن العالم اختلف والشعب الألمانى أكثر نضجا وعموما فهذه مسألة ربما تحتاج إلى تأمل ودراسة، ولكن ما هو واضح على الأقل أن أوروبا وألمانيا أكثر قوة وأكثر اعتمادًا على الذات ستتمكنان أكثر من بناء سياسة خارجية موحدة وأكثر استقلالًا، ومن ثم تقتربان من أن تصبحا طرفًا أكثر فاعلية فى عالم المستقبل، وهو التطور الذى كان البعض يتوقعه منذ نجاح خطوات أوروبا فى بناء الاتحاد الأوروبى وتطوير سياسات داخلية وخارجية مشتركة، والذى أجهضته عوامل عديدة، ربما من أهمها التوسع الأوروبى الكبير وتكلفة ذلك اقتصاديًا وسياسيًا، وربما تتحمل واشنطن جزءا من المسؤولية بهذا الصدد ولكن بشكل نسبى، فالمشكلة أوروبية بدرجة كبيرة.
وكنموذج آخر لم تتضح أبعاده بعد تأتى المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الأمريكية التى هدفها الأول تقييد بل وتدمير البرنامج النووى الإيرانى، وكذا الصاروخى وسياساتها الإقليمية، ونحن الآن فى قلب التفاعلات التى لم تتبلور بعد، ورغم وجود مؤشرات على أن إيران تتجه نحو التفاوض وعمل تنازلات، لازالت بعض الأصوات المصرية والعربية التى تنبهر بالظاهرة الإيرانية تطرح أن ناتج هذه المحاولات الأمريكية والإسرائيلية سيكون الإسراع بالبرنامج النووى الإيرانى، إلا أننى أرى أن المشهد الآن شديد التعقيد وسيعتمد على كثير من البيانات التى يخفيها أطراف الصراع، ما يمثل صعوبة القطع بما سيحدث، ومن ثم علينا الانتظار لبعض الوقت لتبين ما إذا كان من نوع النتائج المتعاكسة أم ليس كذلك.
المصري اليوم