في زمن الحروب الكبرى، يُفترض أن تكون الجبهة الداخلية هي الحصن الأخير الذي لا يُخترق. لكنّ المفاجآت التي تعرّض لها حزب الله في الحرب الأخيرة جاءت من الداخل أكثر مما جاءت من الخارج. فبينما كانت العيون مركزة على جبهات القتال، ظهر أنّ الاختراق الحقيقي حصل عبر أشخاص من قلب الحزب، انقلبوا عليه لحساب العدو.
اللافت في هذه الانقلابات أنّها لم تكن وليدة إيديولوجيا معاكسة أو خلاف عقائدي عميق. بل كانت، في معظمها، نتاج إغراءات بالمال أو المنصب. هنا تحديدًا تكمن المفارقة، أن يسقط حزب بُني على فكرة الانضباط العقائدي، في فخّ "الشخصية اللبنانية" التي تميل تاريخيًا إلى حب السلطة والمكانة.
منذ عقود طويلة، نشأ اللبناني في بيئة اجتماعية - سياسية تُقاس فيها قيمة الفرد بموقعه. المنصب ليس وسيلة للخدمة العامة، بل هو دليل وجاهة واعتراف اجتماعي. هذه الثقافة، التي غذّاها النظام الطائفي والإقطاع السياسي، جعلت من الكرسي هدفًا بحد ذاته. حتى داخل الأحزاب العقائدية والتنظيمات الصارمة، ظلّ "الحلم اللبناني" بالمنصب والسلطة حاضرًا. فاللبناني قد يرفع شعار المقاومة أو الدين أو العدالة، لكنه في قرارة نفسه يقيس قيمته بالمكان الذي يحتله وبالموارد التي يستطيع أن يراكمها.
بهذا المعنى، لم يكن غريبًا أن يجد العدو طريقه إلى الحزب عبر أشخاص احتلوا مواقع حساسة. مدير مكتب قائد وحدة المواقع حمزة السمناني، على سبيل المثال، حمل بين يديه أسرار السلاح الاستراتيجي وبعض أماكن القادة الميدانيين، قبل أن ينجرف وراء إغراءات مالية ويتواصل مع أجهزة مخابرات أجنبية. مغادرته إلى أوروبا يوم اغتيال رئيس أركان حزب الله فؤاد شكر لم تكن مجرد هروب، بل إشارة صاخبة إلى حجم الخرق.
ولم يتوقف الأمر هنا. محمد الحاج أبو تراب، وهو أحد المقرّبين من طلال حمية، قائد وحدة 910 في حزب الله، وجد هو الآخر في المال طريقًا أسرع من الولاء. ارتباطه بالـCIA يكشف عن تحديات الولاء في مواجهة الإغراء، وأن سنوات من الالتزام يمكن أن تتبخر أمام إغراء مباشر، وأنّ المصلحة الفردية قد تنتصر على كل خطاب عقائدي.
أمّا محمد علي الحسيني، الذي كان من جيل التأسيس وصديقًا للسيد نصرالله، موقعه لم يشفع له حين طالب بتولي الملف المالي داخل الحزب فقوبل بالرفض. لحظة الكسر هذه بدّلت مساره، من الداخل إلى الخارج، من حليف إلى خصم. تواصله مع العدو الإسرائيلي، وانتقاله لاحقًا إلى السعودية لم يكن سوى تتويج لمسار بدأ من شعور بأن السلطة التي يستحقها صودرت منه.
هذه النماذج ليست حوادث فردية معزولة. هي انعكاس مباشر لطباع البيئة اللبنانية نفسها؛ الميل المزمن إلى الكرسي، إلى الموقع، إلى اعتراف الآخرين. فالولاء العقائدي قد يصمد أمام القصف والاغتيالات، لكنّه يتصدّع حين يواجه اختبار المنصب والمال.
فلسفيًا، يمكن النظر إلى هذه النماذج وغيرها، كتجسيد لفكرة "إرادة القوة" عند نيتشه، فإنّ الإنسان يسعى بطبيعته إلى التفوق والهيمنة، حتى لو كان ذلك على حساب أقرب الناس إليه. ونفسيًا، تذكّرنا بأن اللبناني، مهما انتمى إلى حزب أو جماعة، يظل أسير بيئته التي علّمته أن القيمة تُقاس بالسلطة لا بالالتزام.
ويبقى السؤال، هل يمكن لأي تنظيم أن يعيد تشكيل شخصية أفراده ليتحرروا من بيئتهم الأصلية؟ أم أن البيئة، بما فيها من طموح وجوع إلى المنصب، أقوى من أي عقيدة؟ تجربة حزب الله تقول إن الحزب العقائدي قد ينجح في تعبئة النفوس بالسلاح والإيديولوجيا، لكنه لا يستطيع أن يلغي نزعة أعمق متجذرة في الثقافة اللبنانية، نزعة السلطة.