خاص وردنا- 280 ألف موظف في دولة منهارة: هل يستحق القطاع العام كل هذا الإنفاق؟

في خضم العاصفة الاقتصادية التي تجتاح لبنان، يبرز قطاع العام كمتهم رئيسي في استنزاف ما تبقى من موارد الدولة المتهالكة. فبينما تعاني الخزينة من نزيف مالي مستمر، تستمر النفقات التشغيلية للقطاع العام في ابتلاع الجزء الأكبر من الموازنة، مما يهدد بانهيار كامل للخدمات الأساسية ويدفع بالبلد نحو المجهول.

يشكل القطاع العام في لبنان نموذجاً صارخاً للاختلال الهيكلي الذي يعاني منه الاقتصاد الوطني. فوفق الأرقام الصادمة، ينفق لبنان ما يقارب 90% من إيرادات الدولة على رواتب موظفي القطاع العام، تاركاً هامشاً ضئيلاً للإنفاق الاستثماري والتنموي. هذه المعادلة غير المتوازنة تحولت مع الأزمة الاقتصادية إلى قنبلة موقوتة تهدد بانهيار الدولة ومؤسساتها.

يكشف الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين عبر "وردنا" عن أرقام مذهلة توضح حجم التضخم في القطاع العام اللبناني، حيث يُقدّر عدد العاملين فيه حالياً بحوالي 280 ألف شخص، يشملون العاملين في الإدارات العامة والمؤسسات العامة وقطاع التعليم والبلديات والقوى العسكرية والأمنية. وبالمقارنة مع الفترة التي سبقت الأزمة الاقتصادية، كان العدد يتراوح بين 300 إلى 310 آلاف موظف، ما يعني أن الأزمة ساهمت في انخفاض عدد العاملين بنحو 20 إلى 30 ألفاً، نتيجة الاستقالات أو التوقف عن العمل.

وتكشف نسبة موظفي القطاع العام التي تقدر بـ25 في المائة من حجم القوى العاملة عن واقع مقلق، خاصة إذا قورنت بالدول المتقدمة مثل فرنسا وألمانيا حيث لا تزيد النسبة عن 14%، وفي اليابان 6% فقط. هذه النسبة المرتفعة في لبنان تشير إلى أزمة اقتصادية ومؤشر سلبي، في دولة تمتص البطالة عبر احتواء العاطلين عن العمل، بغض النظر عن الكفاءة المطلوبة.

هيكلية متقادمة: فائض وظيفي وليس شغوراً

يؤكد شمس الدين لـ"وردنا"، على نقطة بالغة الأهمية، مفادها أن الوصف الدقيق للوضع في القطاع العام هو وجود فائض وليس شغوراً. الهيكليات الإدارية الحالية أُنشئت منذ أكثر من خمسين أو ستين سنة، وتضمنت العديد من الوظائف التي لم تعد ضرورية اليوم. وبالتالي، أي عملية لإعادة هيكلة القطاع العام وتحديثه، بما في ذلك المكننة وإلغاء بعض الوظائف، ستُظهر بشكل أوضح حجم الفائض القائم".

ويضرب شمس الدين أمثلة على هذا الفائض في قطاعات عدة:

-القوى الأمنية: يُقدَّر عدد العاملين فيها بـ120 ألف عنصر، وهو رقم مرتفع لا يتناسب مع حاجات لبنان الفعلية.

-قطاع التعليم: هناك فائض في عدد المعلمين سواء الدائمين أو المتعاقدين.

-مؤسسات أخرى: هناك مؤسسات ووزارات قائمة منذ الستينيات، والعديد من الوظائف التابعة لها أصبحت غير ذات جدوى ويمكن الاستغناء عنها، بل حتى أن بعض هذه المؤسسات بأكملها فقدت فعاليتها ويمكن إلغاؤها.

وتُظهر الأرقام أن الدولة تتكلف 12 ألف مليار ليرة سنوياً كلفة رواتب للقطاع العام، في حين أن دخلها لا يتعدى 13 ألف و800 مليار ليرة سنوياً. هذه النفقات الهائلة تشكل عبئاً ثقيلاً على الخزينة، خاصة في ظل تراجع إيرادات الدولة الذي كان يُقدّر بـ13 ألف مليار ليرة سنوياً ليتم تحصيل 6 آلاف مليار ليرة فقط منها حالياً.

ويلاحظ أن خلال فترة الانتخابات الماضية، جرى توظيف 5300 موظف في القطاع العام، فيما كشفت لجنة المال والموازنة عن أن 32 ألف موظف أُدخلوا إلى القطاع العام خلال السنوات الماضية من قبل أطراف سياسية، تم ذلك عبر خلق مناصب جديدة أو توظيفات وهمية.

إشكالية التوظيف: محاصصة سياسية وغياب الكفاءة

يحذر الخبير الإقتصادي محمد فحيلي عبر "وردنا"، من أن إجراءات السلطة التنفيذية في لبنان محكومة بمزاجية السلطة التشريعية التي تقوم بالأساس على المحاصصة الطائفية والسياسية، مشيراً إلى أن هذه الطبقة السياسية التي تتحكم بهذا البلد ترفض التغيير. وكي تنجح أي حكومة، يرى أنه لا بدّ أن تتحرّر السلطة التنفيذية من هيمنة السلطة التشريعية وتمنح صلاحيات استثنائية للحكومة في بعض الحقول المالية والاقتصادية.

ويوضح شمس الدين أن أكثر من 50% من موظفي القطاع العام يتم توظيفهم تلبية لرغبة الوساطات السياسية والطائفية، إضافة إلى الرشى. ويعطي مثالاً على ذلك بما بات يعرف بـ"فضيحة المدرسة الحربية"، التي كشفت عن مافيا تعمل على توظيف ضباط في الجيش اللبناني، مقابل دفع مبالغ طائلة تصل إلى مائة ألف دولار أميركي.

ويتناول فحيلي إشكالية تعديل الرواتب في القطاع العام، مشيراً إلى أن ثمة مغالطة عندما يُتحدث عن هذا التعديل. فالتعديل ليس هدفه تحسين مستوى المعيشة، بل هو مجرد محاولة لتعويض التآكل في القوة الشرائية للعاملين في القطاع العام. وبالتالي، فإن هذه التعديلات لا تؤدي إلى أي تحسن حقيقي في دخل الموظفين، بل تحاول فقط سد الفجوة التي خلفها التضخم.

ويكمل فحيلي: "للأسف، كنا نتمنى أن يكون الذين يغادرون القطاع العام هم الأقل إنتاجية، وذلك نتيجة عملية إعادة هيكلة وإصلاح شاملة لهذا القطاع. لكن الواقع كان مختلفاً، إذ غادره أصحاب الكفاءات والذين لديهم فرص عمل في أماكن أخرى، مما شكل خسارة مزدوجة: من حيث الإنتاجية، ومن حيث الاستمرارية".

دولرة الاقتصاد: اختفاء الليرة اللبنانية

يشير فحيلي إلى ظاهرة مقلقة أخرى، وهي الانسحاب الفعلي لليرة اللبنانية من التداول: "نلاحظ اليوم غياباً تاماً للاهتمام بوضع الليرة اللبنانية، وكأنها لم تعد العملة الوطنية، بل انسحبت فعلياً من التداول. في المقابل، بات التركيز كلّه على "العناية الفائقة" بالدولار الأميركي".

ويضيف: "في بداية مسار الدولرة، كانت فئة المئة دولار منتشرة بكثرة. أما اليوم، ومع الارتفاع الكبير في نسبة الدولرة، أصبح هناك نقص واضح في السيولة النقدية بالدولار، وأصبحت فئات مثل الخمسة، العشرة، العشرين، والخمسين دولار متداولة أكثر. في المقابل، الليرة اللبنانية تكاد تختفي، وهذا مؤشر غير صحي لا اقتصادياً ولا اجتماعياً، بل يزيد من صعوبة العودة إلى أي شكل من أشكال الانتظام الاقتصادي الوطني".

وبالتالي يقترح فحيلي مجموعة من الحلول الجذرية للإصلاح، أهمها:

-ربط الرواتب بالخدمات: إذا كنت كدولة تدفع رواتب وأجور، حتى وإن كانت بالحد الأدنى، فمن الواجب أن تقابل هذه النفقات بخدمات فعّالة للمواطن.

-إلغاء الامتيازات الضريبية: إلغاء كل الامتيازات والإعفاءات الضريبية التي نشأت بفعل الفساد. من الضروري تقييم الجدوى الاقتصادية لكل منها.

-توطين الرواتب في الحسابات المصرفية: إلزام جميع المؤسسات التجارية في لبنان بتوطين رواتب وأجور موظفيها ومدفوعاتها ضمن الحسابات المصرفية، والتصريح عنها. بهذه الطريقة، نعيد الحياة إلى القطاع المصرفي تدريجياً.

تبين التحليلات العميقة التي قدمها الخبيران الاقتصاديان محمد فحيلي ومحمد شمس الدين أن معضلة القطاع العام في لبنان ليست فقط في حجمه المتضخم، وإنما في غياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح. فالقرارات الإصلاحية تتطلب شجاعة سياسية للتخلي عن سياسة المحاصصة والزبائنية التي استخدمها السياسيون لتعزيز نفوذهم ودعمهم الانتخابي.

إن إعادة هيكلة القطاع العام ليست خياراً فحسب، بل هي ضرورة ملحة لإنقاذ ما تبقى من اقتصاد لبنان. وهذا يتطلب رؤية شاملة تبدأ بتحديد الحاجات الفعلية للدولة، وتقليص الهيكليات المتضخمة، واعتماد معايير الكفاءة في التوظيف، وربط الإنفاق العام بجودة الخدمات المقدمة للمواطن. فقط من خلال هذه الإصلاحات الجذرية يمكن أن يبدأ لبنان مسيرة التعافي الحقيقية.

يقرأون الآن