فجر ذلكَ الصّباح المشؤوم، استيقظَ رجلٌ حالمٌ مغمورٌ مغرورٌ مُقامرٌ اسمه يحيى السّنوار. كانَ حلم أبي إبراهيم ضرباً من ضروب "الجنون الاستراتيجي". تخيّل الرّجلُ أنّه سيُعبرُ السّياج الحدودي في تلكَ البقعة الجغرافيّة من جنوب فلسطين التّاريخيّة، ويدخل صفحات التّاريخ كأحدِ رجالات التّحرّر مثل تشي غيفارا أو "أبو عمّار" أو "أبو جهاد".
لكنّ جنون السّنوار أدخله التّاريخ في صفحات من استجلبوا الخراب والدّمار للشّعب الفلسطينيّ. حتّى باتَ هو أيضاً من صفحات التّاريخ المنسيّة بعد تلكَ الصّور التي بثّتها "الدرون" الإسرائيليّة له وهو يُحاولُ عبثاً الانتصار على التكنولوجيا بقطعةٍ خشبيّةٍ رماها بوهنٍ وضعفٍ وهو يجلسُ مُنهكاً على أريكةٍ مُهترئة داخل منزلٍ مزّقته قذائف الدّبابات الإسرائيليّة.
صحيحٌ أنّ السّنوار حلمَ. لكنّ الصّحيحَ أيضاً أنّ الرّياح لم تجرِ كما اشتهت سُفُن أبي إبراهيم. فهبّت رياحٌ مُعاكسة دمّرت غزّة وجنوب لبنان ووصلت إلى قلبِ إيران وعصفَت بقادة "محور الممانعة"، ولم تستطع أشجارُ المحور أن تثبَت أمام الإعصار الذي سارَ به بنيامين نتنياهو في الشّرق الأوسط. ليُفكّكَ محور إيران الجبهةَ تلوَ الأخرى.
صحيحٌ أنّ السّنوار حلمَ. لكنّ الصّحيح أيضاً أنّ أطفال غزّة كانوا يحلمون أن يعيشوا أسوةً بأطفال العالم. ان يترعرعوا داخلَ بيوتٍ لها أسقف وشبابيكَ وباحات يلهونَ أمامها تحت أنظار أهاليهم. لكنّ الصّحيح أنّ هؤلاء فقدوا كلّ ما حلموا به. وصارَت أحلامهم أن ينالوا شربةَ ماءٍ صالحةٍ للشّرب، أو كسرةَ خبزٍ من طحينٍ أبيض غير مُلطّخة بالدّماء أو برصاص جيش الاحتلال.
صحيحٌ أن السّنوار حلمَ. لكنّ الصّحيح أيضاً أنّ حلمهُ دمّر حُلمَ ذلك الشّاب وتلك الشّابة اللذيْن كانا قد حدّداً موعدَ عرسهما في يومٍ من أيّامِ تشرين الأوّل 2023. لكنّ الصّحيحَ أيضاً أنّ العريس باتَ شهيداً. والعروس أرملةً تحملُ فستان عرسها المُلطّخ بدمِ شقيقتها التي فقدَت هي الأخرى يداً وقدماً وباتَ حُلمها أن تُركّبَ طرفاً اصطناعيّاً، لعلّه يعاونها على المشيِ من دون أن تتكِئَ على حائطٍ أو على عصا تُشبه تلك التي تحدّى فيها السّنوار التكنلوجيا.
صحيحٌ أنّ السّنوار حلمَ. لكنّ الصّحيح أيضاً أنّ والداً في أحدِ شوارع "بيت حانون" كانَ يحلمُ أن يرى أطفالهُ يكبرون أمامه. وأن يحملَ أبناءهم. لا أن يحملَ أطفاله الـ3 جثثاً هامدةٍ ليدفنهم إلى قبرٍ يجاورُ قبر والدتهم التي كانَ الأب نفسه قد دفنها قبل شهريْن من موعد جنازة أطفاله. ليرتحلَ هو الآخر بأزمةٍ قلبيّةٍ أودت به بعد أن أودت مغامرة السّنوار بمنزله وماضيه وحاضرهِ ومُستقبله.
صحيحٌ أنّ السّنوار حلمَ. لكنّ الصّحيح أيضاً أنّ جدّاً وجدّة طالما اعتادا أن ينتظرَا أحفادَهما في اليوم الأوّل من رمضان، وفي عيديْ الفطر والأضحى، إلّا أنّ ما حصلَ بعد عمليّة السّنوار شرّدَهم جميعاً ما بين نازحين في رفَح أو في المواصي أو بين صفوف المُغادرين على شارع الرّشيد لينتقلوا سيراً على الأقدام لـ10 كلم تحتَ زخّات رصاص الاحتلال هرباً من قذائفه.
صحيحٌ أنّ السّنوار حلمَ. لكنّ الصّحيح أيضاً أنّ أطفالاً اعتادوا أن يلتقوا صباحَ كلّ يومٍ في أزقّة مخيّم الشّاطئ ليسيروا معاً نحوَ مدرسة الأنروا، إلّا أنّ المدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء وبعدها إلى كومة رُكامٍ. وهاهم الأطفال بين قتيل وجريح وشريدٍ وباحثٍ عن أهلهِ بين أروقة مستشفى كمال عدوان بعد أن تهجّروا إلى جنوب القِطاع.
صحيحٌ أنّ السّنوار حلمَ. لكنّنا لنا أن نحلمَ بأن تكون غزّة، كلّ غزّة، وبكلّ شبرٍ من الـ 365 كلم مربعاً واحةَ أمانٍ وسلام. وألّا يضطرّ طفلٌ نجا من براثن الحربِ للتفكير بمُغادرة أرضهِ، وما تبقّى من ركام ذكرياتهِ نحوَ الصّومال أو إندونيسيا أو النرويج أو ألمانيا. فغزّة لنا.. وليسَت ليحيى السّنوار. ليرَحلَ هو، وبقِيَت غزّة.