مع بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، كان واضحاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يملك عدة مميزات تمكنه من إدارة المعركة وفق سياسته الباردة، فعامل الوقت مضافاً إليه العامل البشري والجغرافي والاقتصاد الروسي القوي، كلها عوامل استثمرها بوتين في حربه لصد تمدد الناتو نحو فضائه الاستراتيجي، وربطاً بذلك فإن هذه السياسة بحسب الكاتب حسن مرهج أجبرت الغرب عموماً على تقديم المزيد من الدعم لأوكرانيا لمنع روسيا من تحقيق أهدافها، وإجبارها مكرهة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
وفي غمرة الحرب الروسية الأوكرانية، اندلعت في الشرق الأوسط معركة أُخرى شتت تركيز الغرب بعيداً عن أوكرانيا.
فحرب غزة في توقيتها وظروفها أصبحت فرصة لروسيا، ونافذة لاستعادتها الأفضلية الأخلاقية، وتغلغلها بين دول الجنوب العالمي، وتغيير علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، والأهم قدرة روسيا على مقاربة الوقائع المستجدة في أوكرانيا وغزة وفق منظور آخر.
بوتين ومؤيدوه السياسيون والإعلاميون كرروا مقارناتهم بين الطريقة التي ردت بها الولايات المتحدة على غزو أوكرانيا بالتهديدات والعقوبات ضد روسيا، وتلك التي ردت بها على الهجمات الإسرائيلية على غزة. ويتناسب هذا النفاق مع السرد الروسي الذي يؤكد قدرة القوى العظمى على اتباع طرقها الخاصة دون أن تنطبق عليها القواعد. ويتساءل الروس عن سبب تطبيق القواعد على قوة عظمى مثل بلادهم حين تستشعر وجود خطر من أوكرانيا.
روسيا من جانبها لا تُبدي دعماً مباشراً لإسرائيل انطلاقاً من جوانب متعددة أهمها عمق المصالح مع إسرائيل، وهذا ما بدا واضحاً من خلال تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والتي أكد فيها أن ما تقوم به روسيا في أوكرانيا يطابق ما تقوم به إسرائيل في غزة لجهة "القضاء على النازية وإبطال مفعول الإرهاب".
الوزير لافروف في تصريحاته الدبلوماسية أراد إحراج الولايات المتحدة والغرب عموماً لكن لم يكن موفقاً في ذلك، وربما خانته اللغة السياسية في توصيف المقاربة، وربما كانت محاولة من قبل لافروف لاستعادة المكانة الأخلاقية والسياسية العالية لروسيا.
وقبل ذلك فقد حاولت روسيا دعم غزة عبر مشروع سياسي في مجلس الأمن لجهة إجبار اسرائيل على وقف إطلاق النار، لكن روسيا مُنيت بفشل دبلوماسي عندما قدمت هذا المشروع إلى الأمم المتحدة بعد عشرة أيام على اندلاع الحرب في غزة حين كان المسار يتجه بالفعل نحو وقف إطلاق النار. لكن الفشل كان جزئيا ولم يكن ممكنا تمرير القرار، ولكن دعم الصين وروسيا له مقابل رفض الحلفاء الغربيين المتوقعين للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا أوصل رسالة إلى الرأي العام في الجنوب العالمي الذي فهم أن المنظمة العالمية كانت متحيزة ضد مصالحهم.
لسنوات حاولت روسيا الإبقاء على علاقات عملية مع إسرائيل، وحاولت أيضاً لعب دور قوة الوساطة من خلال وجودها في سوريا، مما مكّن إسرائيل من قصف مواقع داخل البلاد وفقا لتقارير أجنبية، ومنح إيران في المقابل مجالا للتحرك أيضاً، لكن الابتعاد عن إسرائيل وفق المنظور الروسي يعني إمكانية تمتع روسيا بدعم سياسي من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وهذا ما يصعّب على الدول العربية وتركيا، دعم أوكرانيا علناً. ولن يكون فولوديمير زيلينسكي موضع ترحيب في قمة الجامعة العربية العام المقبل، بعد دعمه الصريح لإسرائيل وصمته عن الدمار في غزة. وربما كان هذا الخيار سوء تقدير من جانب الرئيس الأوكراني، لكن موسكو ستستفيد منه.
الحرب في غزة كان توقيتها مناسباً لبوتين، وفُتح المجال لتغلغل روسيا مرة أخرى في سياسات الشرق الأوسط الذي يشهد دعما غربيا دون شرط ولا قيد لإسرائيل، وكان الطرفان يتحركان بحذر في سوريا قبل فترة طويلة من الغزو الأوكراني. ويمكن القول إن حرب غزة قد وفرت فرصة لتتجاوز علاقات روسيا مع دول الشرق الأوسط آثار الحرب في أوكرانيا.
لكن في النهاية، فإن موسكو وسياساتها الباردة تحاول الموائمة ما بين حربي أوكرانيا وغزة وفق منظورها الاستراتيجي، مع التأكيد على نفاق الغرب في التعاطي مع الحربين، فـهل تؤتي السياسة الروسية ثمارها؟، هذا ما ستكشفه الأيام القادمة والتي ستشهد إعادة تموضع للقوى العظمى من خلال ما بعد حرب غزة.