تشبه مدينة رفح في غزّة اليوم مدينة بيروت عام 1982 عندما كانت آخر حصون منظمة التحرير الفلسطينية أثناء الاجتياح الإسرائيلي آنذاك، غير أن مدينة رفح ضيقة وصغيرة جداً على المستوى الجغرافي على نقيض بيروت التي كانت من أكبر العواصم العربية، والتي اختلطت فيها السياسة بالعسكرة بالفكر والثقافة وجمهرة كبيرة من الصحفيين العرب والأجانب، ودور النشر والفن وغير ذلك، في مدينة ضخمة مترامية الأطراف كانت آنذاك تضم أكثر من 25 ألف بناء شاهق، اختفى في مربعاتها السكنية آلاف المقاتلين.
غير مدينة رفح جزيرة صغيرة غارقة في الخيام والمخيمات، تضم أكثر من مليون ونصف مدني، طال انتظارهم الخلاص من الحرب ضعف ما انتظرت بيروت، التي خضعت في أقل من ثلاثة أشهر لمصلحة المدنيين، واختارت المنظمة الرحيل عن المدينة، بعدما تسلم الصليب الأحمر اثنين من الاسرى الاسرائيليين بينهم طيار إضافة الى عدد من جثث الجنود، وبذلك انتهى وجود منظمة التحرير الفلسطينية المسلح في بيروت.
رفح اليوم تعيش ذات المشهد، غير أن معادلة الصليب الأحمر الدولي لاستلام المعتقلين لدى حماس ليست متوفرة بسبب تعثر المفاوضات طوال الأشهر الماضية، ففي بيروت كان عدد الأسرى معلوماً وفي حالة حماس لا يزال هناك قسم من الاسرى لا تعلم حماس عنهم شيئاً بحسب رواية حماس والرواية الإسرائيلية أيضا، ناهيك عن تشبث حماس بفكرة رئيسية تختصرها بخروج الاحتلال الإسرائيلي من غزة إضافة الى وقف اطلاق كامل للنار، وهو ما تقرأ فيه حكومة نتنياهو أن القبول فيه يعني هزيمة سياسية ويعني أن القبول بهذه النتيجة يضع الحكومة الإسرائيلية أمام مواجهة صعبة مع الجمهور الإسرائيلي خصوصاً وأن النقطة الأساسية التي اعلنها نتنياهو تتمثل بإنهاء حماس، ولكن مع وصول الحالة الى هذه المعادلة الصفرية، يصبح فيها التنازل الإسرائيلي هزيمة سياسية للحكومة أمام الشارع الإسرائيلي، ومسألة عدم القبول فيها تعني استمرار الحرب في رفح، ما يعني بالضبط، أن نتنياهو انطلق نحو غزة وهو يضع خيار شارون في بيروت نصب عينيه، غير أن هذا الخيار الذي يقوم على الحسم العسكري، بات في مواجهة رفض دولي بسبب تكدس المدنيين في رفح، بمقابل صفقة محدودة ألمحت بها وسائل الاعلام الأمريكية، وبذلك باتت غزة فعلاً بين أمرين، الأول وهو إذا ما انتهت الحرب بالحسم العسكري، فسوف يكون عناصر القسام وشركاؤهم من فصائل غزة أمام خيار غوانتنامو غزة، وإذا كانت هناك صفقة فالأمور ذاهبة نحو خيار شارون في بيروت والذي يعني رسم ملامح خطة الرحيل.
في حالة بيروت كانت الصورة مختلفة كثيراً إذ ان انتقال منظمة التحرير الى بعض الدول العربية كان ممكناً، بينما في حالة غزة هناك عثرات كبيرة، أبرزها موقف حماس السابق للحرب والذي كان يصب ضمن المحور الإيراني، فقد وثقت الحركة أواصرها مع ايران، وابتعدت عن العواصم العربية المؤثرة مسافة كبيرة، ناهيك عن دور الحركة في الانقسام الفلسطيني، وذهاب حماس نحو الخيار العسكري، والذي في نهاية المطاف أوصل غزة الى هذه الحالة المأساوية.
النقطة الجوهرية الثانية تتعلق بما حدث في السابع من أكتوبر داخل مستوطنات غلاف غزة، خصوصاً ضحايا المسرح الذي كان يحيي حفلة في الهواء الطلق، والذي تقول إسرائيل أنه كان يضم رعايا أكثر من 20 دولة مختلفة، ناهيك عن الضحايا والمختطفين من الجنسيات الأجنبية، ما يعني أن قادة كتائب القسام أمام مسائلة قادمة إذا ما قامت دولة واحدة فقط من الدول التي لديها رعايا بالادعاء لدى الجنائية الدولية، وهو ما يمثل حجر عثرة في استقبال قادة وعناصر القسام إذ ثمة معضلة قانونية قادمة.
ما يعجز عنه القانون تأتي به الصفقات، بالتالي ما هي الصفقة الممكنة، إذا ما وافقت حماس على الرحيل عن غزة، خصوصاً وأن جناح الحركة السياسي يسعى اليوم لإيجاد مكان بديل، قد تكون صنعاء الخاضعة لهيمنة الحوثي وبيروت الخاضعة لهيمنة حزب الله، ما يعني أن التمهيد بانتقال القيادة السياسية لحركة حماس نحو بيروت وصنعاء، هو واحد من بدايات الصفقة، غير أن خروج القسام نحو بيروت أمر يلاقي رفضاً واسعا في لبنان، على نقيض جماعة الحوثي التي تريد الاستقواء بأي عنصر وافد لتعزيز قبضتها على صنعاء، وهي التي لا تزال تعمل على تجنيد حتى الأطفال لهذه الغاية.
ما هو القادم، هل هو اجتياح وحرب صورية أو حقيقية، وما هي النتائج، هل هي غوانتنامو غزة أم خيار شارون في بيروت، والذي لا يزال يتمسك به نتنياهو حتى اخر لحظة، لأنه الخيار الذي يظن نتنياهو انه سيحميه من السقوط والذهاب الى المحكمة التي تأجلت طويلاً.