خطوتان إلى الأمام خطوات إلى الوراء


بالتوازي مع لحظات وساعات التوتر المرتفع، التي يعيشها لبنان. بانتظار انقشاع معالم ووجهة الأحداث المقبلة، التي تتراوح بين الحرب الشاملة والتوتر المستمر والمتصاعد. ووسط اتساع وانتشار أرجاء العتمة الشاملة على أراضي الجمهورية، نتيجة التقصير الوزاري والمؤسسي الرسمي عن إيصال الحد الأدنى من التيار الكهربائي إلى المواطنين، وهو القطاع المسيطر عليه من قبل طرف سياسي بعينه.

وسط كل ذلك، انشغلت الأوساط السياسية والشعبية، بحدثين اثنين، شكلا تطوراً مهماً، وتسببا بمزيد من الأرق والتوتر لدى المواطنين اللبنانيين.

وتمثل ذلك بخطوتين مهمتين: الأولى، إعلان حزب الله وكشفه عن منشأة عماد 4 المحفورة كأنفاق في صخور أحد الجبال تحت الأرض. والخطوة الثانية، تمثلت بتصعيد سياسي إعلامي من قبل رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، عبر اتهامه الحكومة اللبنانية، بالخيانة العظمى نتيجة موقفها وسلوكها تجاه التطورات في الجنوب.

والواقع، أن الخطوتين أراد أصحابها أمراً، فكانت النتيجة أموراً أخرى لم يحسبوا لها الحساب. خطوة حزب الله، الأكثر إثارة وخطورة بالطبع، في سياق الحرب الدائرة ومعطياتها الحامية، أثارت الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام.

لماذا أقدم الحزب، على هذه الخطوة وفي هذا التوقيت؟ وهل كان مضطراً لها؟ وما هي الفوائد التي سيجنيها منها لحسابه وللبنان؟ وكيف ستكون انعكاسات هذه الخطوة، عسكرياً وسياسياً، على الحزب ولبنان والمواطنين المرعوبين والخائفين في مختلف الأرجاء والمناطق؟

طبعاً، وسائل إعلام الحزب، والقوى والشخصيات المقربة منه، وضعت هذه الخطوة في سياق الرد التحذيري والتهديدي على إسرائيل، من مغبة الاعتداء على لبنان. ووضعتها في سياق تهديد إسرائيل والضغط عليها، للقول إن المقاومة قوية ومجهزة ولديها الأسلحة المتطورة.

في الواقع والحقيقة، لم يكن الحزب مضطراً للإعلان أو الكشف عن هذه المنشآت. فما من عاقل كان يمكن أن يعتقد أن الحزب المدجج بالصواريخ، يضع صواريخه الدقيقة والحساسة، في مخازن فوق الأرض، خصوصاً أنه سبق أن كشف عن أنفاق أعدها لمقاتليه في الجنوب، وبالقرب من الحدود وفي مقابل المناطق المحتلة في الجليل. وبالتالي، فإنه من الطبيعي أن يكون قد فكر وعمل على إقامة أنفاق للصواريخ وللأسلحة الثقيلة.

لذلك، فإن الكشف عن هذه المنشآت، في هذا التوقيت، من شأنه أن يوسع بنك الأهداف لدى إسرائيل، ويحفزها على استكشاف ما قام الحزب بإعداده وحفره، مما يرفع من منسوب المخاطر والاستهداف على لبنان والحزب نفسه. كما أن الكشف عن هذه الأنفاق أو الثكنات العسكرية بهذه الضخامة، من شأنه أن يخدم ماكينة الترويج والتحريض الإعلامي الصهيوني والاسرائيلي العالمي على الحزب ولبنان، والمخاطر التي بات يمثلها أمام العالم الغربي المنحاز إلى إسرائيل أساساً.

جاء الكشف عن هذه الأنفاق والترويج لها، ليزيد من طين سمعة لبنان المتدهورة بلة وتدهوراً. فوطن الحرف والأبجدية والإبداع الفكري والجامعات الحديثة، يتحول في أعين العالم إلى وطن الأنفاق والصواريخ والمتفجرات.

بمعنى آخر، ستعمل إسرائيل من الآن على الترويج والتحريض ضد لبنان وحزب الله، الذي حول جبال هذا البلد إلى أنفاق وثكنات عسكرية مدججة بالصواريخ والقنابل والثكنات العسكرية الخطيرة، بعد أن كانت زاخرة بالينابيع والأنهار والخيرات والآثار الإنسانية.

فبدل أن يكون لبنان في وضعية الضحية والمعتدى عليه أمام العالم، من قبل إسرائيل.. لم يعد كذلك، بل أصبح بنظر قسم لايستهان به من العالم، بؤرة لتخزين الأسلحة والصوريخ الإيرانية الدقيقة، كمثل كوريا الشمالية أو غيرها من بؤر الشر والتوتر. وهذه نقطة وواقعة كان يمكن عدم التسبب بانتشارها وانطلاقها بالكشف عن هذه الأنفاق ومحتوياتها.

كان من الأفضل للحزب ولبنان المستهدف من إسرائيل بالدعاية الصهيونية، الكبيرة والقوية، أن تبقى هذه الأنفاق من بين أسراره العسكرية من دون الكشف عن محتوياتها، بعد أن تحولت من الآن نقطة للتحريض على لبنان والحزب وهدفاً للتدمير والتفجير من قبل إسرائيل ومن يدعمها.

لقد ظن الحزب أن فيلم الأنفاق سيكون له تأثير فيلم الهدهد. لكن حساباته لم تكن صائبة، بل إن العكس هو الذي حدث. تأثيرات أفلام الهدهد كانت قوية لناحية إخافة وإقلاق إسرائيل ومواطنيها. لكن تأثيرات فيلم الأنفاق باتت كابوساً على اللبنانيين. فمن لديه عائلة في لبنان، بات يفكر ألف ومليون مرة في مستقبلها، في ظل الأنفاق والثكن الصاروخية. وبدل التفكير في البناء في لبنان والاستثمار فيه وعليه، تغيّر تفكيره للحاضر والمستقبل. فقد اختلفت الأحوال بعد فيلم الأنفاق الصاروخية، التي لا يعرف أحد أين امتدت وما هو مداها وعمقها.

أما بالنسبة لموقف رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، من اتهام الحكومة بالخيانة العظمى، فلم يكن موفقاً على الإطلاق، وكان موقفه بمثابة طلقة غير صائبة، وليست في مكانها وأوانها المناسبين.

بطبيعة الحال، لا يمكن الدفاع عن كل ما تقوم به الحكومة، خصوصاً بالنسبة لموقفها من تطورات الجنوب. فقد شابت سياستها ومواقفها الكثير من الثغرات، لجهة عدم التمايز عن سياسة ومواقف حزب الله، الذي صادر صلاحياتها وسلطتها على أكثر من مستوى، وحل عملياً مكانها من ناحية اتخاذ القرار. لكن اتهامها بالخيانة العظمى أمر مبالغ فيه جداً. فالحكومة ملامة في حدود إمكانياتها المتواضعة، نتيجة تدهور أحوال القوى السياسية التي قد تكون مساندة لها ومواجهة لسياسة الحزب، خصوصاً بعد اندثار وتبخر قوى 14 آذار، التي كانت تلعب دوراً محورياً في التوازن السياسي في مواجهة حزب الله وقوى المحور المدعومة من إيران وسوريا.

هذا لا يعني أن الحكومة تمارس دورها كاملاً وكما يكون، لكن الاتهام بالخيانة العظمى فيه الكثير من التحامل الزائد.

حين أطلق الدكتور جعجع موقفه تجاه الحكومة، لم يحسب أن نسبة أخصامه ستتضاعف، خصوصاً أن كثراً "ناطرينه خلف الباب". فعادت علاقته مع الحزب التقدمي الاشتراكي إلى التوتر بعد فترة تنسيق واستقرار. كما أن المؤيدين والداعمين لحكومة ميقاتي قد ازدادوا والتفوا حولها. وبما أن السياسة في العمق هي فن الممكن وحسن تقدير الموقف، فإن موقف جعجع المبالغ فيه تجاه الحكومة، قد شكل خدمة وفرصة لأخصامه، بدلاً من أن يخدم ما قصده هو بالوقوف في مقدمة القوى المعارضة. فخسر الكثير من الأصدقاء ولم يربح الكثير من المعارضين، الذين تراجع عددهم وقل تأثيرهم. فخدم الحكومة ونهجها وموقعها المتهالك والمتداعي، من دون أن يقصد ويتعمد. وكما يقال في العامية: "فات بالقزاز من دون أن ينتبه له".

وهكذا، فقد قصد حزب الله بالكشف عن أنفاقه الصاروخية أمراً، فحصد نتيجة أخرى. وهدف جعجع لجمع المعارضة من حوله، فتفرقت واجتمعت حول الحكومة. ويكون الحزب وجعجع قد تقدما كل واحد منهما خطوة إلى الأمام، لكن في العمق تراجعا خطوات إلى الوراء.

المدن

يقرأون الآن