كلما تجولت الطائرات الحربية الإسرائيلية أو تلك التى يعرفها الشعب اللبنانى بـ"إم كا"، طائرة دون طيار، فى سماء لبنان من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه، يقوم أحدهم أو كثر منهم بتكرار نفس الخطاب المكرر بل الذى أصبح كالأسطوانة المشروخة؛ لو لم يتدخل هذا الفصيل أو ذاك أو لو لم يكن هذا أو ذاك لما دخل لبنان فى هذه الحرب غير المتكافئة، ثم يذرفون بعض الدمع البارد مثل خطابهم ويتكئون على جروح الوطن، بل الأوطان ويعيدون البكاء المصطنع على من راح ضحية هذا العدوان الإسرائيلى الذين يرفضون استخدام التعبير الأصح له وهو حرب الإبادة الصهيونية على فلسطين ولبنان.
تتكرر هذه السردية التى لم يعد حتى أفيخاى أدرعى يتجرأ على استخدامها إلا وأصبح مادة للسخرية أو النقد فى إعلامهم قبل أى أعلام عالمى - إذا كان قد تبقى منه من يتقن فن ملاحقة الخبر والبحث عن الخلفية وهى ألف باء العمل الصحفى الحق الذى اختفى وأصبح شيئا من فعل الماضى البعيد. يقف ذاك فى منزله بتلك الضيعة الساحرة فى حضن الجبل وأمام الميكروفون يردد "حرام أهل لبنان يدفعون ثمن الوقوف مع فلسطين". وبعضهم يقول ما لنا وما لهم فليخوضوا حروبهم بنفسهم. لنتفق أن هناك فصائل سياسية فى لبنان لها تاريخ من العلاقات مع الكيان لم تبدأ بوقوفهم فوق جثث الأبرياء فى صبرا وشاتيلا فى العام 1982، ولم تنتهِ بعد ذلك فى معارك وحروب يفتحها الصهيونى المتعطش للسير فى مشروعه القديم جدا للتمدد عبر كل تلك الحدود التى صنعتها سايكس بيكو، وحتى ما بعدها للوصول إلى منابع النفط والاقتصادات والأسواق المفتوحة على مصراعيها لاستقبالهم!
تبقى صور مذابحهم فى ذاكرة كثيرين وكثيرات منا مهما تقدم بنا العمر وضعفت الذاكرة، واضحة كما ولو أنها حدثت صباح هذا اليوم. ولسنا بحاجة لأن نبحث فى المكتبات ودور النشر فهى فى مجملها مدونة لديهم أكثر مما هى عند باحثينا وجامعاتنا ومدارسنا! وليس الواحد منا بحاجة إلى نبش ذاكرته أو أوراقه أو مكتبته، ليضع قائمة طويلة من التواريخ المحفورة بالدم لمجازر ارتكبت على أرض فلسطين ولبنان ومصر وسوريا وكثير من الدول العربية الأخرى. ولكن لنبقَ فى لبنان حيث انتشرت فى الأيام الأخيرة، والقلب يعتصر على أهلنا هناك، تصريحات وتحليلات ومقالات وبرامج حوارية هدفها الأول والأخير تبرئة الصهيونى من فعل الإبادة والمجازر ولوم الضحية على أنها قاومت الموت ومشروعه.
دون العودة بعيدا، لنبق عند منعطفات رئيسية فى الحروب الصهيونية على لبنان، وبالتحديد منذ أربعين سنة فقط حتى لا نصدق ما يريد بعض الجهلة أو المتعصبين أو المتصهينين ترديده. فمنذ 1948 قام الكيان الصهيونى بشن حروب على لبنان فى: 1948، ثم فى 1968، و1973 و1978، 1982، 1985، 1996، 2000، 2006، 2023، 2024. هذه مجرد تواريخ من الذاكرة فهناك ما بينها تفاصيل كثيرة والأهم أن جيش الصهاينة احتل بيروت فى 1982 وبعد خروج كل مقاتلى منظمة التحرير قام بمجزرة صبرا وشاتيلا التى مرت ذكراها خلال هذا الشهر. وربما فقط لمواصلة عملية نبش الذاكرة، رغم أنه لا حاجة لذلك فصور الجثث المكدسة فوق بعضها على أرض المخيمين والتى تركت حتى تعفنت هى شاهدة على المشروع الصهيونى الذى يتصور بعض المتصهينين العرب ويكررون الآن أن حرب الإبادة على فلسطين ثم لبنان ما هى إلا مواجهة للمقاومة هناك ممثلة فى حماس والجهاد الإسلامى وفى لبنان حزب الله.
شاءت الصدف أو الأقدار أن أشهد بعض هذه المجازر والحروب أو أن أتواجد بعدها فقد كنت فى بيروت بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، وكان الدم لا يزال نقيا على الجدران والصور التى يرويها بعض الناجين وهم قلة أو بعض المسعفين. ثم ما بعدها مجزرة قانا وما بعدها حتى الحرب فى 2006 ويبدو ما يحدث الآن من حرب على لبنان من جنوبه لبقاعه لكله، ما هى إلا تاريخ يعيد نفسه بأسلحة أكثر فتكا ودموية وبشاعة ومطاردة للأبرياء تحت ذرائع أن المقاومين يختبئون فى مبانى الضاحية، كما قالوا إن مقاتلى حماس يختبئون فى مستشفى الشفاء بغزة..
عندما عدت لتصفح بعض ما كتبت وجدت أن ما يحدث الآن ليس بعيدا عن ذاك، وهنا بعض مقتطفات أردت فقط أن أعيد بها التذكير لمن يبحث عن مبرر للصهيونى ليقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال، أو لمن يشمت فى حضرة الموت الإنسانى، أو لمن يريد أن يصطاد صورة هنا أو منصبا هناك على حساب أهله وناسه وربما البشرية كلها. هنا فقرة مما كتبت تذكرتها وسكان الجنوب ينتقلون بين صاروخ وآخر:
(اكتظت الجثث بالجنوب.. صرخ الجنوبيون لا ترسلوا لنا حليبا ولا خبزا، بل أكفانا وتوابيت، لم يعد كل قماش الكون وخشبه يكفى ليحتضن تلك الجثث التى بقيت تحت الركام لأيام تنتظر أن تفسح لها السماء مساحة ليدخلوها فى باطن الأرض فترتاح.. عادت الغارات تنتقى القرى والضيع واحدة تلو الأخرى من أقصى الجنوب حتى أواخر الهرمل.. تكررت الصور والمشاهد. دوى المدافع يدك البلدات الملاصقة للحدود. تحملت عيتا الشعب وعديسه وكفر كلا قصفا لم تشهده من قبل. لا تنتهى القائمة هنا، فنيران قصفها طال الخيام تكرارا، وبنت جبيل وصور والنبطية واللويزة فى إقليم التفاح وبعلبك والهرمل والبقاع الغربى، حيث راح اللبنانيون يعدون ما يستطيعون من الجثث. تتسارع سيارات الإسعاف بين قذيفة وأخرى فوق طرقات مدمرة لتصل إلى مشارف بلدة ما، أحيانا تستطيع أن تنقذ أو تسعف أحد الجرحى، وكثيرا ما تتوقف عن بعد تنتظر أن يسمح لها ذاك الجنرال الواقف فوق مدرعته، ذاك الذى مزق كل الاتفاقيات والبنود الدولية المتعلقة بإسعاف المدنيين فى الحروب أمام أنظار الكون، أن يسمح لها بأداء مهماتها الإنسانية. "هى حرب إبادة جماعية" يكرر ذاك الذى لا يسمع باعتصام أو مسيرة أو تظاهرة إلا ويحمل لافتة كتب عليها "إسرائيل تنفذ حرب إبادة بالفلسطينيين واللبنانيين". ويتطلع بنظرات العاجز الذى لا يملك سوى الصراخ والتظاهر كأنما يقول "أضعف الإيمان".
هناك كثير غير هذا يبدو وكأنه مناسب جدا لهذه اللحظة ولبنان يذبح أمام أعين العالم المتابع بصمت قاتل، خاصة وأن زعماء العالم من رؤساء وملوك وأمراء وشيوخ، كلهم يجتمعون هذه الأيام فى مقر الأمم المتحدة وجمعيته العامة ليبحثوا فى "أسس السلم والسلام" ونشر القيم الإنسانية والتأكيد على التشريعات والقوانين الدولية التى أثبت طوفان الأقصى كم هى حبر على ورق أو مادة دسمة لدروس القانون فى الجامعات المحنطة. سقطت كل الأقنعة وأولها أن هذه المحافل الدولية ما هى إلا "منتديات" للكلام المنمق المكرر البالى.