منذ اللحظة الأولى، كانت الشكوك تَحوط زيارة البابا فرنسيس للبنان. فصحيح أنّ الكرسي الرسولي “وافق” على الإعلان عن موعدها في حزيران، كما تمنّى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولكن في خلفية الوعد الفاتيكاني شرطٌ يصعب تحقيقه وسط مناخات التوتر الدولية والإقليمية، وفي ظل الطاقم الموجود حالياً في السلطة.
يقول خبير في شؤون الكرسي الرسولي، إن الأسباب الصحية لتأجيل الزيارة في محلّها تماماً. فالبابا يحتاج إلى تدخُّل جراحي في مفاصل الركبة لم يعد ممكناً تأجيله. وهو سيكون ملزَماً باستراحة تدوم أسابيع، قبل أن يعود إلى مزاولة أنشطته الجسدية. ويستحيل عليه أن يقوم بزيارة لبنان في هذه الفترة.
ولكن، قبل أن يدخل العامل الصحي على الخطّ، كانت زيارة البابا مرشَّحة بقوة للتأجيل، لأسباب أخرى. ومنذ اللحظة الأولى التي أعلنت فيها مصادر القصر الجمهوري عن الزيارة، في حزيران، أصيب المسؤولون في الكرسي الرسولي بالمفاجأة، وسارع مدير الموقع الرسمي للفاتيكان ماتيو بروني إلى القول: «الزيارة مجرد فرضيَّة، وهي قيد الدراسة».
ولكن، لاحقاً، ولضرورات معينة، تمّ التأكيد أنّ الزيارة ستحصل في حزيران. لكن دوائر الفاتيكان لم تُبدِ أي حماسة في التحضير لها، خلافاً لما يجري عادةً في مثل هذه الحالات، إذ تبدأ التحضيرات العملانية قبل أشهر. وهذا يعني أنّها لم تكن تتعاطى مع الأمر بكثير من الجدّية.
والواضح أنّ الجانب اللبناني، الرسمي والكنسي، تَحسَّس هذه البرودة الفاتيكانية، وأدرك أنّ احتمالات حصول الزيارة ضعيفة. وهذا الأمر يمكن ملاحظته في مستوى التحضيرات الرسمية والكنسية.
إذاً، ما هي دوافع الفاتيكان لإعلان القبول بموعد الزيارة، ما دام يميل إلى تأجيلها، قبل أن يطرأ العامل الصحي؟
الخبير في الشأن الفاتيكاني يقول: عندما قام عون بزيارة الفاتيكان، شرح للبابا ما يعانيه لبنان من أزمات تهدِّد كيانه، بتأثير من الصراعات الإقليمية والدولية، وشرح له ما يهدّد المسيحيين من أخطار على وجودهم ومستقبلهم، وتمنّى عليه أن يزور لبنان قريباً، فيكون ذلك جرعة دعم معنوية.
وقد استمع البابا إلى شروحات عون باهتمام. والفاتيكان يولي وضع لبنان ومسيحيي المشرق كثيراً من العناية والمتابعة. وقد طرح أسئلة عمّا سيفعله طاقم السلطة في لبنان لإخراج البلد من الأزمة، خصوصاً بعد الانتخابات النيابية التي يتردّد أنّها يمكن أن تشكّل فرصة لتغيير ذهنية الحكم والتخلُّص من الفساد. وقد شاركه الرئيس عون هذا الاهتمام والأمل بحصول التغيير في الانتخابات.
وبناءً عليه، أبدى البابا تجاوباً لزيارة لبنان في حزيران، علماً أنّ القرار بالزيارة متخذ أساساً في الفاتيكان، والمطلوب فقط تحديد الموعد المناسب، أي المناخات التي ستظلل هذه الزيارة. وإذا كانت الانتخابات النيابية ستحمل تغييراً في الذهنية التي يُدار بها لبنان، والمبادرات الدولية والإقليمية ستسهل الخروج من الأزمة، فمن الممكن أن تحصل الزيارة بعد الانتهاء من ورشة الانتخابات، وقبل انتهاء ولاية عون.
هذه تحديداً هي حدود «الوعد» الذي قطعه البابا أمام عون. ولاحقاً، أكّده عبر السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتيري في الرسالة التي سلَّمها إلى رئيس الجمهورية مطلع نيسان الفائت. ومجيء البابا يشكّل فرصة ثمينة لتلميع صورة العهد وإظهار حدّ أدنى من الثقة فيه، مقابل الانزلاق اللامتناهي نحو قعر الهاوية.
وللتذكير، قبل شهر، كان هناك رهان على إيجابياتٍ وتسوياتٍ إقليمية ودولية، خصوصاً في ما يتعلق بالتسوية مع إيران وتحقيق إنجاز في المفاوضات الحدودية مع إسرائيل، ما يساهم في إنجاح المبادرات، ولاسيما المبادرة الفرنسية، ويفتح الطريق أمام حوار بين اللبنانيين برعاية إقليمية ودولية.
لكن تَحوُّل الحرب في أوكرانيا إلى استنزاف، أعاق التسويات الدولية كلها. ومن سوء حظّ اللبنانيين، أنّ أياً من القوى المتصارعة في لبنان لن يتخلّى عن ورقة يمتلكها، ولن يقدّم أي تنازل في أي مكان، بما في ذلك لبنان. ولذلك، يبدو مسدوداً أفق المبادرات في المسألة اللبنانية حتى إشعار آخر.
وهذا يعني أنّ «ستاتيكو» السلطة القائم اليوم لن يتبدّل في الانتخابات النيابية، وسيبقى القرار الأكبر في يد إيران. وعلى العكس، في ظلّ هذا التجاذب العنيف، سيحاول الإيرانيون الاحتفاظ بمزيد من المكاسب على الساحة، ما ينعكس استمراراً لمناخ الانهيار وفساد الطبقة السياسية والفوضى.
وهذا المناخ ليس ملائماً على الإطلاق لمجيء البابا إلى لبنان. والفاتيكان يتجنّب أن تؤدي زيارات البابوات إلى تكريس الواقع الشاذ في بلدٍ معيّن، أو إلى مباركة الفساد والظلم والفوضى. وفي العادة، تكون زياراتهم بمثابة إعلان عن بدايات الانفراج.
ووفق هذه النظرة، يبدو أنّ الانفراج في لبنان ليس قريب المنال، إلّا إذا تحقَّقت معجزة. وعلى الأرجح، الفاتيكان نفسه لم يعد يصدِّق أنّ لبنان يمكن أن يشهد المعجزات، ما دامت تتحكَّم به الشياطين!
الجمهورية - طوني عيسى