على الرغم من أصوات قعقعة السلاح شرقًا وغربًا، ما بين أوكرانيا من جهة، والشرق الأوسط من جهةٍ ثانية، وتبعات الموت الذي أضحى عادةً هنا وهناك، فإنّ كلّ ذلك لم يفلح في أن يواري أو يداري الاهتمام الكبير الذي أظهره المراقبون للشأن الدولي لِقِمَّة مجموعة دول البريكس الأخيرة، والتي عُقدت في مدينة قازان عاصمة جمهورية تتارستان، والسؤال الذي رافق القمة: "هل البريكس هو الطريق لتخليق نظام عالمي جديد، موازٍ على الأقل وأول الأمر للنظام العالمي الحالي، وربما في مرحلة زمنية لاحقة، مغاير له، وبديل عنه، نظام قادر على إزاحة النظام الغربيّ، بموروثه الأوروبي المتراكم عبر خمسة قرون، ووريثه الأميركي مالئ الدينا وشاغل الناس؟
مهما يكن من شأن السؤال، فإنّه بات من المؤكَّد أن هناك مجموعة من الدول قُدِّر لها أن تتحول إلى كيان ثوري عالمي، وإن بطريقٍ سلميٍّ، يسعى لتغيير شكل خارطة النفوذ الدولي بصورة واضحة. وإن لم يستطع إزاحة الغرب في الحال فإنه سيتمكن من ذلك في الاستقبال بصورة أو بأخرى.
هل يعني ذلك أنّ هناك عطبًا كبيرًا أصاب النظام الغربي في الآنة الأخيرة، وأن البحث عن بديل له أمرٌ جار على قدمٍ وساق قولاً وفعلاً؟
الشاهد أنه لسنوات عديدة رفض صُنَّاع السياسات الغربيون النظر بعين التقدير لمجموعة دول البريكس، واعتبروها قعقعة بدون طحين، سيّما أنها لم تستطع القيام بإعادة كتابة قواعد التجارة الدولية، ولم يصدر عنها عملة مشتركة، كما لم تنجح أنظمة الدفع البديلة حتى الآن في إحداث أيّ ضرر للهيمنة العالميّة التي يتمتع بها الدولار الأميركيّ.
غير أن مشهد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والذي حاولت الولايات المتحدة الأميركية والاتّحاد الأوروبي عزله وتهميشه في نطاقه الإقليمي من جهة، والدولي من جهة ثانية، وهو محاطٌ بنحو 24 رئيس دولة وحكومة، لهو أمر يَشِي بأن المخطط الغربي قد فشل، وأن العالم يمضي بقوة في إثر هذه المجموعة، ويكفي النظر إلى عدد من الدول الحليفة للولايات المتحدة، وهي تشارك بعمق وقوة في فعاليات قازان الأخيرة، ما يعني أن الكثيرين باتوا يؤمنون بأن البقاء في حالة الأسر الذهني والمادي للغرب أمرٌ لا يفيد، وأن تنويع المسارات وتعدد المساقات الدولية هو الحلُّ الأفضل لإشكالات عالمنا المعاصر.
يبدو تجمع بريكس في قازان وكأنه رسالة للولايات المتحدة بالدرجة الأولى، حيث خسرت الكثير من الرهانات الأممية خلال السنوات الأربع الأخيرة من رئاسة جو بايدن، فلم تفلح في صَدّ بوتين عن أوكرانيا، كما أخفقت في ردع إسرائيل شرق أوسطيًّا، ناهيك عن الشكوك التي باتت تُخيِّم فوق أوروبا وتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون عن انشغالها بالصين، يلفت انتباه كافة حلفائها إلى الأزمة القوية التي تواجه مصداقيّتها.
هل عرف الروس والصينيون كيف يستغلون نقاط الضعف في ثوب الولايات المتحدة الأمميّ الآخذ في الاهتراء يوما تلو الآخر؟
غالب الظن أن ذلك كذلك، لا سيّما أن مجموعة دول البريكس الأصلية، ناهيك عمن ينضم إليهم تباعًا، ضمن منظومة "بريكس بلس"، تجسد الاستياء المتزايد بين القوى المتوسطة تجاه النظام العالمي الذي تقوده واشنطن.
هنا ومن خلال الألم الكبير الذي يعيشه الشرق الأوسط وسكانه، يمكننا القطع بأن بكين وموسكو عرفتا كيف تدلفان إلى منطقة نفوذ أميركي تقليدي منذ الحرب العالمية الثانية، ونجحتا في العزف على أوتار المشاعر المعادية للغرب على نحو أكثر فعالية مستغلين الإحباط إزاء المعايير المزدوجة الغربية.
ولعله من نافلة القول إن فكرة العقوبات الاقتصادية التي درجت واشنطن وبروكسيل على تفعيلها، دفعت الكثير من الدول والحكومات إلى التخوف المستقبلي من ردَّات فعل واشنطن، حتى بين أصدقائها قبل أعدائها، الأمر الذي خلق بِلُغة الاقتصاد حالةً من الطلب على السلعة البديلة أي تجمع البريكس الساعي لتفعيل تعاون اقتصاديّ إنسانويّ، يتجاوز فكرة العصا الغليظة المرفوعة في الوجه آناء الليل وأطراف النهار.
منذ العام 2006، حين ولدت مجموعة البريكس، وهناك حالة من النموّ المُطَّرد في أعداد الدول الراغبة في الانضمام بقوة للجماعة القطبيّة الوليدة، والتي أدركت أنه لا بد من سياقات التعاون بعيدًا عن التناحر لمواجهة الانفلات الأميركي بمُقدَّرات العالم.
تمثَّلَ الأمر في بداية عام 2024 الجاري في انضمام 5 دول جديدة إلى المجموعة وهي مصر والإمارات والسعودية وإيران وإثيوبيا، وجميعها تمثِّل أوزانًا جيوسياسية واقتصادية، جغرافية وديموغرافية مُعتبَرة على الخارطة الدولية.
الأرقام في واقع الأمر لا تكذب ولا تتجمل، ومنها أنّ عدد سكان هذه المجموعة يشكل نحو 45.2% من تعداد سكان العالم، بينما يشكل سكان العظماء السبع أو الـ G7 9.7% من إجمالي سكان العالم، مع الأخذ بعين الاعتبار حالة الشتاء الديموغرافي التي تُخيّم على الحواضن الغربية مؤخَّرًا.
من جهة تالية، يشكل حجم الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة "بريكس" بناء على معيار تعادل القوة الشرائية نسبة 36.7% من الاقتصاد العالمي، مقابل 29.6% لدول مجموعة السبع.
تمتلك دول مجموعة البريكس، احتياطات من النفط الخام بنسبة 45.8% من إجمالي الاحتياطات العالميّة، بحسب بيانات 2023، فيما تمتلك مجموعة السبع الكبار 3.9% فقط.
هل الأوزان العسكرية مهمة في مثل هذه المقاربة؟
بالقطع نعم، ويكفي المرء أن يشاهد حضورًا لروسيا والصين والهند، ليعلم الوزن العسكري لها مجتمعة، ويمكن للناظر أن يتطلع كذلك إلى ما هو أبعد، أي التعاون بين هذه الدول في القريب العاجل أي في زمن الذكاء الاصطناعي وما بعده، وكيف لأفكار الابتكار والقوة أن تشكل عالمًا مغايرًا عن العالم التقليدي، ربما لن تكون فيه هناك حاجة لحاملات الطائرات، والصواريخ المجنّحة، بعد أن تنتقل المعركة إلى العوالم الرقمية والافتراضية، ومساحات الصراع العلمي على عقل البشر قبل الحجر.
حين رفع الرئيس الروسي بوتين بيده صورة لعملة البريكس، تساءل العالم هل الدولار الأميركي سوف يتلقّى ضربة حاسمة قاصمة كما تروج الميديا الروسية؟
قد لا يكون الأمر من باب التمنّيات، حتى ولو استغرق الأمر بعض الوقت، بل واقع قادم في المدى الزمنيّ المنظور، سيّما أن هناك محاولات جادة على صعيدين، الأول: هو تخليق نظام دفع دوليّ جديد، مغاير للنظام الأميركي المعروف "سويفت" والذي من خلاله تمرّ جميع التحويلات الدولارية، والثاني: هو طرح عملة جديدة موحَّدة تستخدمها الدول الأعضاء.
هل جاء بيان بريكس الأخير ليعطي أملاً ما في عالم مغاير ومختلف عن فترة الثلاثة عقود التي تلت ما عُرِف بالنظام العالمي الجديد لصاحبه جورج بوش الأب؟
غالب الظن أن هناك سعيًا حثيثًا في هذا الاتّجاه، يستغل الفرصة السانحة للانتقال من عالم الأحادية إلى أجواء التعددية، ومن قطب يبسط سيطرته الأحادية ولا يوفر الأمن للعالم إلى عالم جديد ينعم بمراعاة الأمن عند القاصي والداني، الكل فيه سواسيةٌ في الأخذ والعطاء، وفي مواجهة الجدب معًا، والاستمتاع بخيرات الفيض معًا أيضًا.
تبدو فرص بريكس في خلق فرصة لعالم جديد حقيقيّةً لا شعارات مخمليّة، وهو ما اختمر بقوةٍ هذه المرّة في قازان، والجميع ينتظر تحويل الرؤى والتنظير إلى سياسات فاعلة على الأرض.