سوريا.. السقوط من الداخل

ليس غريبًا ذلك الجدل الذى نشهده هنا، حول ما جرى ويجرى فى سوريا، بعضنا يتصور أن الارتباط العميق بسوريا يعود إلى المرحلة الناصرية وتجربة الوحدة، فشلت التجربة وكان لابد أن تفشل، وبقيت العلاقات قوية بين البلدين، فكرة الوحدة كانت موجودة من أيام العصر الملكى.

الجغرافيا لها ضروراتها وحتمياتها، ارتباطنا بالسودان وليبيا ومنطقة الشام كلها وكذلك السعودية واليمن، ضرورة الجغرافيا إلى جوار العوامل الأخرى، ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

قبل الحرب العالمية الأولى كان لدينا المجلس التشريعى، برلمان تلك الأيام، كان به عضو يمثل "الجالية السورية"، النقاش الدائر منذ سنوات حول التواجد السورى فى مصر، كان هناك نقاش أشد حدة منه زمن الخديو إسماعيل، حين استقبلت مصر آلافًا من السوريين، عاشوا واستقروا فى هذا البلد الآمن الأمين.

اشتد الجدل بعد اختفاء نظام الأسد، وتركز الجدل فى أمرين.

الأول محاولة فهم وتفسير ما جرى فى سوريا، التهاوى السريع للنظام فى دمشق.

الثانى: مستقبل سوريا.. هل نرى نموذجًا آخر لما جرى فى أفغانستان أو عراق ما بعد ٢٠٠٣؟

فور هروب د.بشار الأسد من دمشق واختفاء الجيش العربى السورى، انطلق حديث المؤامرة، مواقع بيروتية نشرت أن صفقة تمت بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس المنتخب دونالد ترامب بمقتضاها تترك روسيا سوريا وتترك الولايات المتحدة أوكرانيا، وبناءً على هذا التصور راح البعض يتحدثون عن مصير أو نهاية رئيس أوكرانيا زيلينسكى على غرار بشار الأسد، فى إحدى القنوات المصرية تحدث إعلامى بارز عن خيانة حدثت فى سوريا، وأشار بالاسم إلى وزير الدفاع السورى ورئيس أركان الجيش السورى، وتحدث فريق ثالث عما سموه خيانة إيرانية لسوريا.

نظام الأسد لم يسقط نتيجة خيانات الحلفاء الأجانب، الأنظمة تتآكل وتسقط من داخلها أولًا، ويمكن لقوى الخارج أن تلمس ذلك وتدركه مبكرًا بوضوح فتستعد لذلك وتضع حساباتها.

النظام السورى فقد شرعيته حين أدخل الجيش فى حرب حقيقية مع مدن ومناطق سورية، مغيرًا بذلك عقيدة الجيش القتالية، ولما عجز الجيش عن السيطرة وحدثت به انشقاقات، كان يجب أن يتراجع ويتجه إلى حل سياسى وطنى وأن يعيد ترميم الجيش، لكنه أمعن فى الخطيئة الوطنية. حيث استعان بقوات أجنبية من روسيا وإيران وميليشيات من حزب الله، هنا هو استعان بجيوش أجنبية تقاتل الشعب وقام عمليًا بتنحية الجيش عن مهمته. المظاهرات فى عدد من المدن السورية ابتهاجًا باغتيال نصر الله، كان يجب أن تفهم وتقرأ جيدًا من الرئيس السورى وأجهزته.

حسمت الطائرات الروسية الأمر سنة ٢٠١٥، لكن النظام فقد جزءًا كبيرًا من السيطرة على البلاد، وشكَّل المعارضون دولتهم الأخرى فى إدلب، وكان على الرئيس بشار أن يتصرف بمسؤولية وطنية، لكن استمر إبعاد الجيش والاستعانة بالأجانب، ثم اتجه النظام إلى تصنيع والاتجار بالمخدرات للحصول على العملات الأجنبية، وبدلًا من محاولة استعادة اللاجئين راح يبتز الدول الأجنبية بهم، تركيا نموذجًا، وتارة يغزو الجيران بالمخدرات، الأردن نموذجًا.

ثم جاءت حرب غزة وتدخل الأذرع الإيرانية، هذه الحرب كشفت النظام السورى أمام الجميع، الحلفاء قبل الخصوم.

الخصوم اكتشفوا الضعف البالغ للنظام، لم يتمكن من صدّ غارة إسرائيلية واحدة من مئات الغارات، وهذا يعنى انكشافًا عسكريًّا تامًّا.

فيما يخص الحلفاء، من المؤكد أن جهات ما فى إيران ساورتها الشكوك فى ذلك النظام، كانت إسرائيل تتبع المستشارين العسكريين الإيرانيين فى كل مكان بسوريا وتتصيدهم جميعًا، المعلومات عنهم بكافة التفاصيل، توقيت ومكان الاجتماعات أو التواجد، كانت متاحة لدى إسرائيل، وهذا يعنى أن الاختراق الإسرائيلى عميق جدًا لسوريا وربما يكون بسماح من الرئيس بشار نفسه.

هنا يمكن أن نستحضر تصريح وزير الخارجية الإيرانى مؤخرًا أنه فى لقائه بالرئيس السورى أواخر سبتمبر الماضى فاتحه فى أن الجيش السورى فى حالة ضعف معنوى شديد وأنه يجب العمل على تجاوز تلك الحالة.

الحليف الأكبر أدرك أن الجيش السورى فى انهيار، ولم يتعامل الرجل بجدية مع ما استمع إليه.

قبل اغتيال السيد حسن نصرالله بفترة قصيرة، نشر موقع لبنانى أن رئيس المخابرات السورية طلب زيارة الجنوب ومقابلة السيد نصرالله، لكن مكتب السيد رفض المقابلة، ذكر الموقع، نقلًا عن مصادر مقربة من حزب الله أن الرفض يعود إلى أن لديهم شكوكًا فى رجل المخابرات السورية.

الحلفاء باتوا يشعرون أن نظام بشار صار عبئًا عليهم، فما بالنا بالخصوم؟

انهيار نظام الأسد، حالة كلاسيكية جدًا لانهيار الدول، راجع مقدمة ابن خلدون والشروط التى حددها لما سماه عبدالرحمن بن خلدون "الانتقاض على الدولة"، ذكر أنه يبدأ من "الأطراف"، أى ما يسمى اليوم المناطق الحدودية، وهذا ما وقع فى سوريا، إدلب شمالًا ودرعا جنوبًا، ذكر ابن خلدون أيضًا أن الانتقاض يقع حين تشتد العصبيات والقبلية داخل الدولة وتتجه كل عصبية إلى الحصول على السلاح وإعداد مقاتلين، وذلك ما يسمى فى عصرنا الميلشيات الطائفية والمذهبية.

وضع ابن خلدون على رأس عناصر الفساد والانهيار أن يتجه الحاكم إلى التجارة، أى البيزنس ومراكمة الأموال، راجع من فضلك أرقام عوائد الكبتاجون على آل الأسد فى السنوات الأخيرة. ربما تكون هناك بعض المبالغات فى حكايات التشنيع التى انطلقت بعد السقوط، لكن تورط رؤوس النظام فى تلك التجارة مؤكد.

كشف الانهيار السريع فى دمشق عن غياب مؤسسات عميقة فى الدولة أو ما يسمى "الدولة العميقة"، وجود هذه المؤسسات يميّز بين الدولة والنظام السياسى، وبين الدولة ورأسها.. الدولة كيان وطنى وإنسانى جامع للمواطنين وللمشروع الوطنى، الذى يصون الوطن جغرافيًا وسياديًّا، النظام السياسى يمكن أن يتغير وقد يسقط، لكن الدولة تبقى وتستمر.. الحق أن صعود الطبيب بشار حافظ الأسد إلى السلطة بيسر شديد وتعديل قوانين من أجل ذلك يشير إلى غياب تلك المؤسسات، سلوكه وخطواته السياسية بعد ذلك أكدت ذلك الغياب، استدعاء قوات أجنبية ومنحها قواعد عسكرية أو مقرات داخل العاصمة نفسها بقرار شخصى من الرئيس يعنى، انعدام تلك المؤسسات أو غيابها، فضلًا عن القوانين والترتيبات الإدارية.

تبخّر الجيش السورى وأجهزة الأمن بسرعة شديدة، حتى إن الكتائب والقوات المرابطة على خطوط وقف إطلاق النار مع إسرائيل وهى لاتزال فى حالة عداء مع البلاد، انسحبت من مواقعها بأسلحتها، وتركت المنطقة خالية، الأمر الذى قدم لإسرائيل مبررًا باحتلال مزيد من الأراضى السورية، خاصة جبل الشيخ. هل يتم التحقيق يومًا فى ذلك، من أعطى هذه القوات الأمر بالانسحاب السريع وإخلاء المكان، عمليًا تسليم الحدود للقوات الإسرائيلية.

علق كثيرون انهيار النظام فى رقبة الجيش وهناك من اتهم قادته بالخيانة، لكن الأمر أكبر من الخيانة ومن المؤامرات.

الاتحاد السوفيتى كان يمتلك جيشًا ضخمًا، الرؤوس النووية لديه كانت تفوق عددًا الرؤوس النووية لدى الجيش الأمريكى، ولم يمنع ذلك انهيار الاتحاد، الرئيس جمال عبدالناصر لم يكُن لديه جيش منذ يونيو سنة ١٩٦٧ وحتى نهاية سنة ١٩٦٨، مع ذلك لم يسقط النظام، بل أعاد بناء الجيش ليكون أقوى وأحدث كثيرًا مما كان عليه قبل الهزيمة، الجيش الأمريكى تلقّى ضربة قاسية من الطيران اليابانى فى "بيرل هاربور"، ما لبث أن استعاد نفسه وامتص المفاجأة والضربة.

القضية هل هناك دولة ومؤسسات عميقة بالفعل أم لا؟، المؤسسات العميقة ضرورة وطنية ملحّة، حتى لو لم يعجب ذلك دعاة الفوضى والعدمية.

المفاجأة ليست فى سرعة الانهيار، لكن فى تأخر الانهيار كل هذه السنوات، فى مقال سابق لى-المصرى اليوم، الأحد ١٥/١٢، قلت إن هيئة تحرير الشام أشبه بالنملة التى حفرت تحت عصا سيدنا سليمان فاكتشف الجميع وفاته.

المصري اليوم

يقرأون الآن