ما بين المبالغة فى تصوير انتخاب الجنرال جوزيف عون رئيسًا جديدًا للبنان بعد أكثر من عامين من الشغور الرئاسى، ثم تكليف القاضى نواف سلام، رئيس محكمة العدل الدولية، بتشكيل الحكومة بأنه استعادة للقرار والسيادة، ورد آخرين بأن ما جرى ليس سوى نقل للقرار من دولة إلى أخرى.. فإن التطورات الراهنة استثنائية إلى حد كبير، وربما تقود إذا خلصت النوايا وتعاون الفرقاء اللبنانيون وقللوا من كونهم صدى أصوات اللاعبين الإقليميين والدوليين إلى عودة لبنان الذى افتقده العرب ما يقرب من نصف قرن.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، هبت رياح التغيير على المشرق العربى. سوريا التى جثم "آل الأسد" عليها ٥٤ عامًا، أنهت ٢٠٢٤ واستقبلت ٢٠٢٥ مرتدية ثوبًا جديدًا. ومهما كانت الملاحظات والمواقف من الإدارة الانتقالية الحالية إلا أن دمشق، التى ظلت على مدى عقود طويلة ركيزة للركود والاستبداد، أطلقت، بسقوط بشار فى ٨ ديسمبر الماضى، أجراس التغيير. كان لبنان أحد أسباب التغيير فيها بعد الضربة المؤلمة التى تلقاها حزب الله خلال العدوان الإسرائيلى، والتى شجعت الفصائل المسلحة السورية على مهاجمة النظام وإسقاطه، متأكدة أنه لا الحزب ولا إيران (ولا روسيا أيضًا) قادرون على مد يد الإنقاذ إليه. ثم جاء سقوط الأسد ليرفع اليد الثقيلة الجاثمة على صدر لبنان، فبدأ التحرك بحرية أكبر رغم أن المؤثرات الإقليمية العربية والدولية لاتزال موجودة.
تقريبًا، ما حدث فى انتخاب البرلمان الجنرال جوزيف عون تكرر عند تكليف نواف سلام. قبل عملية التصويت لانتخاب رئيس الجمهورية بساعات، كان التوجه لاختيار شخص آخر، لكن عند الاقتراع جرى التصويت لـ"عون". أما رئيس الوزراء، فقد كان هناك اتفاق ضمنى على إعادة تكليف رئيس الوزراء الحالى نجيب ميقاتى بالمنصب إرضاء للثنائى الشيعى (حزب الله وحركة أمل)، مقابل موافقتهما على "عون". تعليق قناة تليفزيونية لبنانية وصف ملابسات اختيار سلام بما يلى: "رئيس الليل محاه النهار. إذ بات ميقاتى على وسادة التكليف، ليطلع فجر الاستشارات (إبلاغ نواب البرلمان رئيس الجمهورية باسم من يرشحونه لرئاسة الحكومة) على الوسادة الخالية حتى من نواب سبق أن أعلنوا رسميًا تسميته رئيس حكومة تصريف الأعمال".
عون وسلام قادمان من خارج المنظومة السياسية اللبنانية، التى اعتراها الفساد والمحاصصة والتكلس والتوريث لسنوات طويلة، لذا كان الاستقبال الشعبى لاختيارهما لقيادة المرحلة المقبلة مُرحبًا وداعمًا.
عون تعهد، فى كلمته بعد انتخابه، باستعادة الدولة اللبنانية، من خلال حقها فى احتكار السلاح ومنع تهريب المخدرات أو التدخل فى القضاء، مؤكدًا أن لا محسوبيات ولا حصانات لمجرم أو فاسد. سلام نموذج للقاضى والسياسى المصلح المستقل فى بلد اعتمدت نخبته السياسية المحسوبية والطائفية والمصالح الشخصية أساسًا لتقاسم الثروات والسلطة والنفوذ. له مؤلفات عديدة لخروج بلاده من الأزمة، أشهرها: "الإصلاح الممكن والإصلاح المنشود". هل تتيح هذه النخبة للقادمين الجديدين الفرصة أم تمارس العرقلة والتسويف والاحتواء لإفشال مهمتهما، كما فعلت مع آخرين؟
فى ١٧ أكتوبر ٢٠١٩، اندلعت احتجاجات جماهيرية هائلة نتيجة رفع الضرائب على سلع عديدة. سرعان ما وسعت أهدافها بمهاجمة الحكم الطائفى والركود الاقتصادى والبطالة والفساد. استقال رئيس الوزراء آنذاك، سعد الحريرى، وطرح المتظاهرون اسم نواف سلام، لكن السياسيين رفضوه. تواصلت الاحتجاجات حتى عام ٢٠٢١ دون أن تسمح لها السلطة بتحقيق أهدافها. توافق الحُكم على إفشال ما سُمى ثورة تشرين/ أكتوبر.
رغم تلك المعوقات التى يجب عدم الاستخفاف بها، إضافة إلى تململ الثنائى الشيعى من هذه التغيرات التى اعتبرها مفروضة من الخارج، إلا أن مؤشرات عديدة تشى بإمكانية انتقال البلاد من حفرة ظلت فيها طويلًا إلى وضع أفضل. هناك رئيس جمهورية ورئيس وزراء مكلف، لديهما الرغبة والدعم الشعبى والإقليمى والدولى للتغيير. القوى السياسية مضطرة إلى مساندتهما على الأقل فى البداية لتجنب الاستياء الداخلى والخارجى. حتى حزب الله وأمل ليسا فى وضع يمكنهما الرفض الصريح للعهد الجديد. سيراقبان تطورات الأوضاع ويقرران خطواتهما المقبلة. المحيط الإقليمى، والدول العربية المؤثرة، تضغط من أجل منح التأييد والدعم للحكم الجديد، وإلا لن تساعد فى إعادة إعمار ما خلفه العدوان الإسرائيلى.
ومع ذلك، فإن لبنان محكوم بالتوافق، وأى استبعاد لممثلى طائفة معينة أو إشعارهم بالتهميش من شأنه أن يعود بالسلب على العملية السياسية برمتها ويمنع التغيير المرتقب. لسنوات طويلة، كان ممثلو الشيعة يقودون المشهد السياسى. الآن يتراجع دورهم، لكن لا يجب استبعادهم أو الانتقاص من حقوقهم. لبنان يعود، لكن بأية حال؟.