دعْ عنك ضعف التدقيق اللغوي في الصفحات التسعين للخطّة المصرية، والتي أصبحت عربيّة، لإعادة إعمار قطاع غزّة، ومن سوء التحرير في مقاطع عديدةٍ فيها، وشرح الخرائط فيها بالإنكليزية، ومن إطنابٍ في السرد عن إعادة التأهيل والبناء في هيروشيما وبيروت وبرلين، مع تداخلٍ بائسٍ في الإتيان عليها... دعً عنك هذا كله (وغيره)، سترى الخطّة على قدرٍ ظاهرٍ من الجودة والتماسك. والراجح أن كفاءاتٍ مصريةً من خبراء التعمير والإسكان وتخطيط المدن وعلماء البيئة، بل أساتذة في علمي النفس والاجتماع أيضاً، أنجزوها.
ولذلك، يستحقّ التثمينَ هذا الجهد من الإدارات المختصّة في غير وزارة مصرية، الخارجية وغيرها. وأياً كانت الملاحظات التي قد يسوقُها أهل الدراية اللوجستية والفنية في هذا الموضع أو ذاك في الذي تشتمل عليه الخطّة التي بدأت بديباجةٍ سياسيةٍ، فإن الأوْلى، والأدْعى، التعامل الإيجابي مع البنود التي اشتملت عليها، بشأن التنفيذ ومراحله، والتمويل اللازم ومصادِره، والاحتياجات من المعدّات والمركبات، ومن الموارد البشرية المؤهّلة.
لا حاجة إلى الحلْف بأغلظ الأيْمان للقول إن أحداً من أركان إدارة الرئيس ترامب لم يقرأ الخطّة وتفاصيلها، وإن قالت القاهرة، قبل إعلان البيان الختامي للقمّة الطارئة أن الدول العربية تبنّتها، إنها أطلعَت واشنطن على مضمونها. وأن يُسارع المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، براين هيوز، إلى إعلان رفض الولايات المتحدة، دقائقَ بعد إعلان الخارجية الإسرائيلية الرفض نفسه، دقائقَ بعد إذاعة بيان القمّة، يوحي بأن هذا الموقف جرى اتّخاذُه قبل القمّة نفسها. وليس من خلاصةٍ يُمكن الانتهاء إليها سوى أنه الاستخفافُ بالعرب وإجماعِهم في القاهرة وراء هذا الموقف الإسرائيلي الأميركي الموحّد، والمستعجَل، والذي ينطق بأن قطاع غزّة، الذي لا يصلُح للسكن حالياً، بحسب وصفٍ محقٍّ يكرّره المسؤولون الأميركيون، ليس شأناً عربيّاً، فاليوم التالي لحرب الإبادة التي لا يريد نتنياهو وقفاً معلناً لها موضوعٌ أميركي إسرائيلي، فلا مدعاة للدول العربية أن تَشغَل نفسَها به، في قممٍ طارئةٍ أو عادية. وإذا حاورت دولة الاحتلال والولايات المتحدة مصر وقطر في أمر غزّة فلبحث سبُل الإفراج عن "المختَطفين" الإسرائيليين لدى حركة حماس، أما غير هذا فليس لأي دولةٍ عربيةٍ صلة به.
إنه القُعود، أزيد من عام، عن اتخاذ خطواتٍ ومواقف عمليةٍ حازمةٍ وشجاعةٍ ضد دولة الاحتلال، عندما بدأت تجريد حملة الإبادة المشهودة في غزّة، هو ما جعل الاستخفاف ردّاً معلناً على خطّةٍ عربيةٍ مجمعٍ عليها، تصوّرتها مصر والأردن (مثليْن) البديل الذي طالبًهما به ترامب عندما "فوجئ" (!) برفضهما تهجير أهالي غزّة إليها. لم تر القاهرة وعمّان وقف العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العبرية خياراً للضغط على الأخيرة من أجل الكفّ عن شناعاتها في الحرب على أهل القطاع المحاصر. واستكانت القاهرة لسلطة جيش الاحتلال في تفتيش كل سيّارة مساعداتٍ تدخل القطاع، وعليها علما مصر والأمم المتحدة. ولم تلوّح أيٌّ من الدول العربية بمراجعة علاقاتها مع الولايات المتحدة، بإعادة النظر في اتفاقيات اقتصادية وفي مشاريع استثمارية وصفقات، مثلاً. استسلمت الحكومات العربية لاستضعاف نفسها، واكتفت بالنشاط الدبلوماسي والتوجّه إلى الأمم المتحدة ومخاطبة أوروبا، من دون أن يُحدِث أيٌّ من هذا كله شيئاً في انعدام الحس الأخلاقي لدى الوحش الإسرائيلي الذي مضى في التمادي في جرائمه بديلاً عن التجاوب مع مطالب الأمم المتحدة وأمانتها العامة ومؤسّساتها وأجهزتها، ومع قرارات هيئاتٍ قضائيةٍ دوليةٍ عليا، ومع مناشداتٍ تقاطرت من غير جهةٍ ودولة.
جاءت الأخبار على ردٍّ تعكف القاهرة على صياغته، ستتوجّه به إلى إدارة ترامب، بشأن رفض الأخيرة الخطّة العربية لإعمار غزّة، ولكن المكتوبَ يُقرَأ من عنوانه. ولم تأت أيُّ أخبارٍ عن خياراتٍ ممكنةٍ تباشر بها الحكومات العربية بخصوص هذه الخطّة التي استهلكت 90 صفحة (كان في الوُسع اختصارها)، والتي غاب فيها مما كانت تلزمه صدارتها: ضمانات لدى العرب تحمي هذا المشروع الطموح والكبير لإعادة إعمار غزّة (كما برلين وغيرها!) من استباحات اعتداءاتٍ إسرائيليةٍ ترى رئاستا الأركان والحكومة في إسرائيل "وجوب" ارتكابها. وحماية هذه الخطّة من استخفافٍ معلنٍ بها لم ير داعياً لمطالعة تفاصيلها... وبهذا يسأل سائل: على من بالضبط كان أهل القمّة العربية يقرأون مزاميرهم؟
العربي