كيف يمكن استقبال الجديد؟

ما تزال تتحكم في كثيرٍ من الأوساط العربية عقليات الانتصار أو الهزيمة. وبالنظر للأوضاع التي استجدت (2023-2024) فإنه حتى في القضية الفلسطينية وتطوراتها ما عاد يمكن الكلام عن حلٍ حاسم لهذه الجهة أو تلك. عقلية الانتصار أو الهزيمة هي عقلية الميليشيات، والتي يكون خصمها داخلياً في الغالب، وتنتهي بانقسام البلاد أو تصدع الدولة. وفي حالة التصدع، يصبح همُّ التنظيمات المسلَّحة البقاء من خلال إقامة الكيانات الصغرى الخارجة على القانون وعلى أعراف الاجتماع العربي والإسلامي. ما نحتاجه في الكثير من البلدان العربية هو عقلية الدولة. والتي تبدأ ببناء المؤسسات وصنع الاستقرار والاتجاه للتنمية. وهذه العقلية هي التي تمكّن من استقبال الجديد وصنعه أو السير باتجاهه للبقاء في العالم ومعه، ولتقديم الخدمات والإسهام في تأهيل مسار التقدم من خلال التعليم الراقي والعناية الاجتماعية وتطوير متطلبات السيادة.

لماذا أقول هذا الكلام الآن؟ لأنه بسبب حرب غزة، والتصدع في عدة بلدانٍ عربية، عادت لغة التحديات الوجودية والانتصار أو الهزيمة ولا شيء غير. وإذا جادلنا في أنّ الظروف لا تسمح بهذه الحسابات، نُجاب بأنّ المناضلين مستعدون للشهادة، فالتحدي وجودي ولا يسمح إلاّ بالأبيض الناصع البياض أو الأسود بالغ السواد، وإن لم يشعر العدو بوجود هذه الذهنية الراديكالية فإنه سيُزايد ويزداد بغيه وطغيانه! والأمر ليس على هذا النحو، صحيح أنه من المهم معرفة كيف يفكّر الخصم بنا، لكن ليس من الصحيح بناء الأمور على كيفية تفكير الآخر المُعادي، بل ومع هذا الاعتبار يكون من الضروري بحسب التجربة التفكير في بناء الذات والمجتمع والمؤسسات العاملة والراعية وليس تهيئة الوسائل الدفاعية أو الهجومية وحسب. ثم إنّ الاتجاه لبناء الدولة الوطنية مهما كانت الظروف صعبة، يبعث على الثقة بالداخل الوطني، ويكسب احترامَ الخصم أو الشريك الإقليمي والدولي.

إنّ المشكلة بحق أننا مررنا بمرحلتين في كثير من البلدان العربية خارج الجزيرة: المرحلة الثورية التي كان يقوم عليها العسكريون من خلال الانقلابات وهواجسها وعقلياتها المعروفة. والمرحلة الثانية مرحلة الميليشيات التي تريد أن تكون بديلاً عن الدولة في مواجهة الخارج، وفي صنع الانضباط بالداخل الاجتماعي والمجال السياسي العام. ولأن المسألة تحولت إلى صراعٍ على السلطة بين الحاكمين وخصومهم بالداخل والمحيط، فقد جرى إهمال القضايا الرئيسية المتعلقة بإقامة الدولة الوطنية المدنية القوية والمنيعة.

لا تستطيع الميليشيات المعادية للدولة الوطنية إنشاء دولة بديلة لأنّ ذلك ليس من طبيعتها ولا من تكوينها القائم على انتهاز الفرص والاتجاه للفتك من أجل تثبيت السيطرة، وتحكيم السلاح بالداخل في كل فرصة. والأدهى دائماً تنمية الهويات الفرعية على حساب الهوية السائدة. وقد بدا ذلك ليس في حالة غزة فقط، بل في عدة بلدان من الصومال إلى السودان إلى سوريا والعراق ولبنان واليمن. فإما الدولة الوطنية وإما الفوضى، لأن الميليشيات لا تستطيع أن تصنع نظاماً يفيد منه سائر أبناء البلد، بل ولا تقصد إلى ذلك، لأنها تمثل فئة أو حزباً معيناً هدفه الاستيلاء وإنْ تحت شعارات التحرير.

لقد مر العالم العربي بالمرحلتين الثورية والميليشياوية، وقد خلّفتا خراباً كبيراً، ولذلك يكون من المطلوب والمنطقي، وقد فشلت التجربتان، العودة لتجديد تجربة الدولة الوطنية في الأقطار التي لم تكن فيها دولةٌ حقيقيةٌ من قبل.

كان عنوان هذه الكلمة عن استقبال الجديد وإمكانياته وقدراته. والجديد المقصود هو الإقبال على بناء الدولة الوطنية أو تجديد تجربتها لأننا بذلك نتجاوز حكم الميليشيات والفوضى ونتجه لعلاقات جديدة مع دواخلنا ومحيطنا والعالم.

الاتحاد

يقرأون الآن