لطالما كان الأردن استثناء في منطقة تتهاوى من أطرافها. فمنذ قيام ممالكه العربية الأولى، شكّل هذا البلد الصغير بجغرافيته، الكبير بتاريخه، جدار صد في وجه أطماع الإمبراطوريات القديمة والجديدة. ومع نشوء الدولة الأردنية الحديثة، لم يكن الاستقرار مجرد صدفة جغرافية أو تسوية سياسية، بل كان نتاجا لهوية متجذرة، وقيادة متزنة، ووعي شعبي عميق بخطورة الانزلاق إلى الفوضى.
خلال العقود الماضية، تعرض الأردن لمحاولات متكررة لتفكيك بنيته الداخلية، سواء عبر تغلغل جماعات أيديولوجية كالإخوان المسلمين، أو عبر ضغوط إقليمية تستهدف قراره السيادي. إلا أن ما فشل فيه الآخرون، نجح فيه الأردن بهدوء وصبر، دون أن يتحوّل إلى دولة بوليسية، ودون أن يفقد توازنه في محيط يستدرج الدول إلى خيارات حادة بين الانهيار أو القمع.
اليوم، ما يدور خلف الكواليس أخطر من أيّ وقت مضى. فالمخططات التي تم كشفها مؤخرا ليست مجرد خلايا نائمة، أو تهريب تقليدي للسلاح. إنها تحوّل نوعي في طبيعة التهديد، تصنيع صواريخ ومسيّرات داخل الأراضي الأردنية أو عبرها، تحت عباءة “دعم المقاومة”، في محاولة لإدخال الأردن في معادلة الصراع بطريقة تُسقط دوره الوسيط وتجرّه إلى دائرة النار.
وفق ما تسرّب من تحقيقات دوائر الأمن الأردنية، فإن بعض تلك الخلايا كانت ترتبط بأطراف تعمل ضمن منظومة إقليمية أوسع، وتتحرك وفق خطوط تهريب تمتد من الجنوب السوري وحتى عمق البادية الشرقية، باستخدام تقنيات تهرّبت سابقا من أعين الرادار في دول أخرى. وقد عُثر على معدات تصنيع أوليّة في مناطق نائية، كان من الممكن توظيفها في ضربات تنطلق من الداخل الأردني أو عبره، ما يعني كسرا كاملا لعقيدة الحياد العسكري التي يمسك بها الأردن لعقود. مثل هذه الوقائع لم تُعلن بتفاصيلها الكاملة حتى الآن، لكن تقارير استخبارية أوروبية اطّلعت على أجزاء منها، وهي تدرك أن أيّ اختراق للأردن يعني خلق فراغ أمني عند تقاطع ملفات معقدة، سوريا، العراق، فلسطين، أمن الحدود مع السعودية، وممرات الطاقة التي تعبر من العقبة نحو المتوسط.
من يعتقد أن هذا التهديد أمني فحسب، يقرأ نصف المشهد. فالمعركة الحقيقية اليوم هي على هوية الدولة، على مفهوم السيادة، وعلى بقاء الأردن كقوة توازن وسط بحر من الفوضى. وهذا ما لم يدركه حتى الآن الكثير من صناع القرار في الغرب، ممن اختزلوا دور الأردن في كونه شريكا أمنيا، بينما هو في الحقيقة حجر الأساس الأخير في جغرافيا الاستقرار في الشرق الأوسط. فسقوط الأردن لا يعني مجرد اختلال توازن محلي، بل فتح الشرق الأوسط بأكمله على احتمالات تفكيك عميقة ومعقدة، لا يمكن التنبؤ بحدودها ولا احتواء تداعياتها.
إن اللحظة التي نعيشها اليوم تتجاوز الحسابات الضيقة. هناك مشروع يعمل بصبر لتفكيك آخر دولة متماسكة في الشام. وما لم يتم إدراك هذه الحقيقة مبكرا، فقد يأتي وقت لا تكون فيه بيانات الدعم كافية، ولا الشراكات الأمنية مجدية. فالدولة التي صمدت في وجه الإخوان، ونجت من ارتدادات “الربيع العربي”، واحتوت اللاجئين، وتحملت كلفة الجغرافيا، هي ذاتها اليوم التي تُستهدف عبر أدوات غير تقليدية، بأهداف تتجاوز مساحتها وحدودها.
لطالما كان الأردن، في سياق سياسي متشابك، واحدا من الدول القليلة التي حافظت على “الرحمة” تجاه جماعة الإخوان المسلمين، في محاولتها الحفاظ على توازن داخلي في ظل موجات التغيير الإقليمي. في وقت كانت هذه الجماعة تُمنع في غالبية الدول العربية، اختارت الدولة الأردنية أن تُمكّنها من بعض المساحات السياسية، رغم ما تحمله من تحديات فكرية. القيادة الأردنية أشركتهم في الحوار السياسي كجزء من نسيج مجتمع ديمقراطي، دون أن تُمثل تهديدا على استقرار الدولة.
لكن تبيّن بمرور الوقت أن تلك الخطوة لم تكن إلا وهما سياسيا مؤجلا، إذ لم يملك الإخوان القدرة على التكيف مع الوطن، ولا وعي الدولة الحديثة، فظلّوا أسرى عقل سياسي محدود لا يرى في السياسة إلا وسيلة للهيمنة لا للشراكة أو البناء. وبدلا من أن يُحسّنوا أداءهم في العمل السياسي، لم تثمر تجربتهم إلا مزيدا من التوترات والانقسامات. لم يكن هدفهم يوما بناء دولة ديمقراطية أو خدمة مصالح الشعب الأردني، بل سعوا لفرض أجندات أيديولوجية دخيلة تتعارض مع ثوابت الدولة ومصالحها العليا. غرقوا في فكر مغلق، مدفوع بأوهام خارجية لا علاقة لها بمسار الدولة الأردنية، الأمر الذي جعلهم غير مؤهلين مطلقا للعب أيّ دور بنّاء في استقرار الأردن أو تطوره.
اليوم، مع إغلاق مكاتب الجماعة وحظر أنشطتها، أصبح من الواضح أن الإخوان المسلمين لم يكونوا فقط عنصرا غير مفيد في الحياة السياسية الأردنية، بل كانوا أيضا عاملا مهددا للأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي. وهذا ما أكده التحقيق الأمني الأخير الذي كشف عن تداخلهم مع عناصر إقليمية تهدف إلى زعزعة الاستقرار، وما يتبع ذلك من محاولات لاستخدام الأردن كمنصة لتدخلات خارجية. وهذه الحركات السياسية البائسة أكدت، بلا أدنى شك، أن الإخوان لا يصلحون للسياسة في الأردن، بل يشكلون عبئا على مشروع الدولة الأردنية الذي يعتمد على التوازن والوسطية.
الخطأ الكبير كان السماح لهم بالاستمرار في النشاط السياسي في الأردن لفترة طويلة. كان يجب أن يُدرك الجميع، منذ البداية، أن أيّ جماعة فكرها لا يتماشى مع قيم المجتمع الأردني ولا يتوافق مع مصالحه الوطنية، لن تكون قادرة على تقديم أيّ إضافة تساهم في بناء الدولة الحديثة. وعندما استُنفدت كافة محاولات الحوار والتسوية مع هذه الجماعة، جاء الوقت لأن تقول الدولة كلمتها، لا مكان للإخوان في الأردن.
الأردن ليس في حاجة إلى تعاطف، بل إلى إدراك حقيقي لدوره في حماية المنطقة. هو آخر ما تبقى من عقلانية الدولة في المشرق، وآخر حارس متزن على حدود النار. وإن سقط، لن يسقط بمفرده، بل سيتبعه الإقليم بأكمله إلى فراغ إستراتيجي لا قاع له.
العرب