الاختراق السوري أبرز إنجازات ترامب

لم ينجح دونالد ترمب، حتى الآن، في مساعيه المعلنة لحل أي من الأزمات الدولية التي أعلن عن تصديه لوضع حد لها، فيما الوقت يهدر والضحايا يتساقطون بدءاً من غزة وصولاً إلى أوكرانيا. فقط في سوريا أحدث الرئيس الأميركي خرقاً عندما اعترف بالسلطات الجديدة وقرر رفع العقوبات المفروضة على هذه البلاد منذ أيام حكم آل الأسد.

فشل الرئيس الأميركي حتى الآن في وقف الحرب الروسية - الأوكرانية على رغم أن إنهاءها كان في مقدمة شعارات حملته الرئاسية، واستمر التصعيد على الجبهات وتمسكت روسيا بشروطها، فيما كانت أوروبا تلتف حول أوكرانيا داعمة لها في معركتها المصيرية.

وعندما ضغط ترمب من أجل مفاوضات بين البلدين في تركيا، راهن على اتفاق سريع يتوج بلقاء يجمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فلم يحصل الاتفاق واستعيض عن اللقاء باتصال هاتفي أعقبته اتهامات من ترمب لبوتين وصلت إلى حد وصفه بـ"المجنون"، لكن الكرملين خفف من حدة التوتر الأميركي، مقترحاً أسباباً تبريرية لرئيس البيت الأبيض الذي "يواجه صعوبات مع حلفائه الأوروبيين"، على قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

وينسجم تفسير موسكو هذا مع رؤيتها لسلوك ترمب ودوره ويخدم مطالبها الرئيسة التي تتمسك بها، فهي تمالئ الرئيس الأميركي ما دام يصطدم في رؤيته للعالم مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي، وتواصل في الوقت نفسه تمسكها بشروطها المعروفة للتسوية التي تتضمن اعتراف أوكرانيا والعالم بضمها القرم والمقاطعات الأوكرانية الشرقية، وتغيير وجهة النظام في كييف الذي تتهم قادته بـ"النازية الجديدة".

سيحمل الوفد الروسي هذه المطالب إلى جولة مفاوضات مقررة هذا الأسبوع في تركيا وستقوم أنقرة بواجبها في استضافة الغريمين من دون أمل كبير في تسجيل اختراق، بينما تتصاعد لهجة الأوروبيين عن السماح لأوكرانيا باستعمال أسلحتهم ضد روسيا في أرضها وترد أوساط روسية بالتهديد بقصف برلين.

لن يكون كل ذلك مريحاً لترمب "صانع السلام" كما يود أن يسمي نفسه، بينما يواجه في أمكنة أخرى صعوبات مماثلة ومزيداً من الأطراف غير المطواعة. في غزة لم يتخطَّ الرئيس الأميركي الخط الذي رسمته إدارة سلفه بايدن، وهو إذ يكرر الحديث عن الاقتراب من صفقة لا تتحقق بين حركة "حماس" وإسرائيل، يوفر في مشاريعه الغريبة عن تهجير سكان القطاع إلى دول أخرى وإقامة "ريفييرا" فلسطينية على أرض غزة، أرضاً خصبة لاستمرار إسرائيل في حربها وقتلها وتجويعها اليومي للسكان الفلسطينيين ومبرراً أكثر من كافٍ لـ"حماس" ومثيلاتها لمواصلة القتال وحصد التصفيق في طهران.

لم يتم التوصل إلى اتفاق في غزة على رغم جهود ستيف ويتكوف وعلى رغم خط التفاوض الأميركي المباشر مع "حماس"، ومشروع الهدنة الأخير الذي يتضمن تبادلاً للأسرى عالق بين شروط طرفي القتال، فيما ترمب يعد بأخبار جيدة طوال الوقت.

في الأثناء سحب الرئيس الأميركي قواته من معركة تأديب الحوثيين، ودخل في التوقيت نفسه تقريباً في مفاوضات مع إيران أعلن أنه يهدف من خلالها إلى إنهاء البرنامج النووي الإيراني كلياً، لكن طهران تكرر إثر كل جولة من جولات تلك المفاوضات تمسكها بتخصيب اليورانيوم ويبدي مرشدها شكوكه في المفاوض الأميركي ويصب غضبه على إسرائيل، مهدداً للمرة المليون بإزالتها من الوجود.

ومع ذلك لم يتراجع ترمب عن تفاؤله بقرب التوصل إلى اتفاق نووي جديد لا يكرر اتفاق أوباما، لكن لا بشائر فعلية سوى التصريحات المتفائلة يليها سيل الشكوك العارم. وفي المفاوضات النووية، كما في مفاوضات أوكرانيا وغزة، لا يكف ترمب عن إطلاق التعابير المفخمة عن صفقات "رائعة".

"يجرب قوته" يقول معلق في صحيفة "يديعوت" الإسرائيلية. "كعادته يبحث عن إنجاز سريع، لامع ومبهر، عن صفقة القرن"، وعلى هذا النحو امتلأت الصحف والمحطات الإعلامية العالمية خلال مايو (أيار) الماضي بتصريحات من نوع إنهاء الحرب في غزة خلال أيام واقتراب سريع لاتفاق مع إيران وإنجاز لاتفاق ينهي حرب أوكرانيا "في غضون أسبوعين"، وهذان هما "أطول أسبوعين في التاريخ" كما لاحظ، بسخرية، مراسل "سي أن أن".

وضمن جردة الحساب هذه، يحتل مصير الأوضاع في لبنان الذي تشرف على تثبيت وقف النار فيه بين "حزب الله" وإسرائيل، لجنة عسكرية بقيادة أميركية، مرتبة متقدمة في اهتمامات الإدارة "الترمبية". وتعرف الإدارة أن هذا البلد لن يعود لحياته الطبيعية من دون كف يد التدخلات الإسرائيلية ونزع السلاح غير الشرعي من يد أنصار إيران وفصائل فلسطينية أخرى، وعلى رغم التغيير في الحكم، الحاصل في أعقاب حرب مدمرة، تتعثر خطوات إرساء سلطة الدولة من دون أن يبدي الرئيس الأميركي ضغطاً أو تحركاً كالذي يمارسه في مسائل حامية أخرى، وربما يعود ذلك للربط المحكم الذي تقيمه إسرائيل وأميركا بين "حزب الله" وإيران، مما يسمح بالاعتقاد بأن موضوع تحرير الدولة في لبنان من سطوة الميليشيات قد يكون جزءاً من مفاوضات الحل النهائي مع إيران.

في كل هذا المشهد المرتبك كان الاختراق البارز هو ذلك الذي سجله ترمب في المسألة السورية، مما يتيح اجتهادات متنوعة، فبطلب من السعودية وبمشاركة تركية، التقى ترمب الرئيس السوري أحمد الشرع وقرر رفع العقوبات عن سوريا. وفتحت تلك الخطوة الباب عريضاً أمام خروج البلاد من حال الحرب والحصار وعودتها للساحتين العربية والدولية، وكرست السلطات السورية الجديدة مسؤولة عن وحدة البلاد ومستقبلها، على أنقاض النظام البائد وحليفه الإيراني.

قد يصح القول إن استعادة العلاقات الأميركية- السورية شكلت الإنجاز الأهم الأكثر حيوية لمستقبل أوضاع المشرق بما في ذلك مستقبل لبنان والعراق الذي يستعد للانتخابات التشريعية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فسوريا التي كانت رأس جسر المشروع التوسعي الإيراني عبر العراق وامتداداً إلى لبنان وفلسطين والأردن، باتت في الموقع الاستراتيجي النقيض ويسهل ذلك عليها في المستقبل القريب القيام بدور إيجابي مؤثر تجاه لبنان والعراق والجيران الآخرين، وهي ستكون للمرة الأولى في صلب الجهود العربية التي لم تتوقف من أجل حل نهائي للقضية الفلسطينية على قاعدة حل الدولتين الذي ينهي مغامرات بنيامين نتنياهو و"حماس" والمرشد الإيراني، ويوفر على ترمب وعوداً في غير مكانها الصحيح.

والاختراق الأميركي في سوريا يلتقي جهوداً عربية حثيثة لإعادة الحياة لبنية عربية دولية تعيد ترتيب الحقائق ضمن أولوياتها الحقيقية وتوفر الأساس لبحث أميركي- عربي- دولي في شروط سلام دائم في المنطقة تحميه دولها الوطنية. وفي السياق قد يكون المؤتمر الدولي الذي تعمل عليه الرياض بالتعاون مع فرنسا من أجل تكريس حل الدولتين، هو الفرصة الجدية لجعل الزخم الذي يميز نهج ترمب مفيداً ومنتجاً لحلول تخدم سلاماً مستداماً وتضع حداً لمشاريع الاستغلال السياسي في شرق عانى ويعاني الكوارث منذ عقود.

أندبندنت عربية

يقرأون الآن