كيسنجر.. عن ذكاءٍ اصطناعي لم يشهده!

مع الاحتدام النظري الصاعد حول الذكاء الاصطناعي من المهم التبويب على آراءٍ يمكننا الاستفادة منها أو نقدها، ومن أولئك السياسي والمفكّر المخضرم وصانع السياسات هنري كيسنجر، والذي لم يكن خارج التحليل السياسي ولا الفلسفي، بل أراه من أفضل من حلل الفلسفات السياسية ودرسها بل واستعملها، ومن يقرأ مذكراته وكتاباته حول الاتفاقيات الكبرى وانبهاره بفلسفة توماس هوبز يعرف أن كيسنجر أكثر من مجرّد سياسي، بل له باع في الفلسفة السياسية وبشكلٍ محترف.

كيسينجر رحل عن دنيانا في 29 نوفمبر 2023، لم يكن التفجّر التقني على أشدّه، لكنه بالتأكيد تفاعل مع أفكار ونظريات الذكاء الاصطناعي، ومن الطبيعي أنه وبحكم سنّه لم يعرف المزيد عن هذا التطوّر الهائل، والذي بدأنا نلمسه الآن في شتى المستويات الأمنية والطبية والتعليمية، هذا ونحن في بدايات بزوغ هذا العلم. وما كان كيسنجر مرحّباً بهذا المجال، وأحسب أنه لم يكن ضده. وبرأيه فإنه من الناحية الفلسفية والفكرية وعلى كافة الصعد، المجتمع البشري غير مستعد لصعود الذكاء الاصطناعي.. ولكن لماذا؟!

لنقرأ محاضرته حول الذكاء الاصطناعي والتنوير، والذي ترجمه رسلان عامر في «مجلة حكمة». يتساءل فيها كيسنجر قائلاً: «وبينما كنت أستمع إلى المتحدث وهو يحتفل بهذا التقدم التقني، جعلتني تجربتي كمؤرخ وكرجل دولة ممارس في بعض الأحيان أتساءل، ماذا سيكون تأثير آلات التعلم الذاتي على التاريخ؟

أي الآلات التي تكتسب المعرفة من خلال عمليات خاصة بها، وتطبّق تلك المعرفة لتحقيق غايات قد لا يكون لها تصنيف في الفهم البشري، فهل ستتعلم هذه الآلات التواصل مع بعضها بعضاً؟ وكيف سيتم الاختيار بين الخيارات الناشئة؟ وهل سيكون من الممكن أن يسير تاريخ البشرية على نفس طريق شعب «الأنكا» في مواجهة الثقافة الإسبانية غير المفهومة وحتى المذهلة بالنسبة لهم؟ وهل سنكون على حافة مرحلة جديدة من تاريخ البشرية؟!». ثم يتخوّف حين يقول:«وإدراكاً مني لافتقاري إلى الكفاءة التقنية في هذا المجال، قمت بتنظيم عدد من الحوارات غير الرسمية حول هذا الموضوع، بمشورة وتعاون من معارف لي في مجال التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، وقد تسببت هذه المناقشات بتزايد مخاوفي».

الخلاصة، أن هذا التذبذب في إبداء الرأي عن مجال الذكاء الاصطناعي من قامةٍ بمستوى هنري كيسنجر مردّه إلى التخوّف وربما عدم الإلمام، نعم ثمة تحديات كبرى لترتيب واستيعاب هذا التفجّر العلمي المهول، ولكن يمكننا أن نواجه كل الآثار المتوقعة عن طريق الفهم أولاً، ومن ثم التقنين ثانياً.

إن هذا المجال العظيم الذي تستوعبه الدول الساعية للتنمية في الإقليم ضروري ومهم، إنه طريق المستقبل، فلا معنى للتوجّس أو التخوّف بل حين نواجه أي تطوّر علمي علينا بفهمه ودرسه والاستثمار به بما يخدم مصالحنا العليا على شتّى المستويات.

الاتحاد

يقرأون الآن